اللعنة التي اشتريتها


بقلم:عابر الكلمات
اسمي سلمان، رجل بسيط عاش حياته بعيدًا عن كل ما يتعلّق بالجن وعوالمهم الغامضة. لم يكن الأمر بالنسبة لي يومًا أكثر من حكايات تُروى على ضوء السمر في ليالي الشتاء الباردة، أستمع إليها بخوف طفل صغير، ثم أغفو وأنساها مع أول خيوط الصباح.
كبرتُ مؤمنًا أن الحياة لا تُعطي إلا لمن يكدح، وأن اليقين لا يُبنى إلا بما تراه العين وتلمسه اليد. هكذا صاغتني سنوات العمر، وهكذا علّمتني سبعة وعشرون عامًا قضيتها بين عرق العمل ومرارة الشقاء. لم أكن أثق بكلام الناس، فمعظمه لم يكن في نظري إلا مبالغة أو خيالًا منسوجًا.
هكذا كنت… أو على الأقل هكذا ظننت نفسي. إلى أن جاء ذلك اليوم الذي قلب مفهومي رأسًا على عقب، وفتح أمامي بابًا لم أتخيّل يومًا أنني سأعبره… بابًا يقودني إلى عالم آخر.
عالم لا يشبه شيئًا مما عرفته أو صدقته من قبل…
بدأ كل شيء بفكرة عابرة في جلسة هادئة جمعتني بابن خالتي. كنت أحدثه عن ضيق الحال وتقلص فرص العمل في الأيام الأخيرة. فمنذ طفولتي وأنا أعمل في السوق؛ حملت الصناديق وصرخت بأعلى صوتي لأبيع، وكبرت بين ضجيج الموازين ورائحة الخضر الطازجة. بما جمعته من عرقي وتعب السنين طورت نفسي شيئًا فشيئًا حتى صار لي محلّي الخاص أعيش منه بكرامة.
لكن الأيام لا تبقى على حالها… التجارة بدأت تفقد طريقها، والحركة في السوق صارت راكدة كالماء الآسن، ولم يعد المحل يدرّ ما يكفي. شعرت أن الوقت قد حان لأبحث عن فرصة جديدة تعيدني إلى السكة الصحيحة.
حينها اقترح ابن خالتي عليّ فكرة لم تخطر ببالي من قبل. قال وهو ينظر إليّ بثقة:
ـ “الفلاحة هذه الأيام مربحة… جرّب الدخول فيها واترك المحل يعمل كما هو. دع التجارة تدور من تلقاء نفسها بينما تفتح لك بابًا آخر.”
كلماته سقطت في نفسي موقعًا غريبًا، ووجدتني أستسيغ الفكرة أكثر مما توقعت. فهي ليست بعيدة عن مجالي، فأنا أملك محلًّا لبيع الخضر والغلال وأعرف الزبائن وأهواءهم جيدًا.
منذ ذلك اليوم بدأت رحلة البحث عن قطعة أرض تناسبني…
تجمّدت في مكاني، عاجزًا عن الحركة وقلبي يخبط في صدري بعنف. وفجأة سمعت صوتًا قويًا يناديني من بعيد:
ـ “تعال إلى هنا… تحرّك بسرعة!”
التفتُّ، فإذا برجل يقف عند طرف الطريق الترابي خارج الأرض، بيده مصباح، وبصوته يتلو التكبير والقرآن. كان هو مصدر الصوت الذي أزعج ذلك الكائن.
اندفعت أركض بكل ما أملك من قوة، فيما الحمار… أو ذلك المسخ المتحوّل، أخذ يركض خلفي بجنون، ونهيقه يعلو في الليل كالصاعقة. كلما اقتربت من الرجل، زاد صوته بالقرآن قوة ووضوحًا، وكأن كلماته سياط تضرب الهواء.
توقف الحمار فجأة، وراح يرفس الأرض بعنف في كل اتجاه، وصوت نهيقه يرتفع حتى كاد يمزق أذني. ومن أعماق الظلام خرجت حمير أخرى سوداء داكنة، تتقافز وتركض بجنون في كل اتجاه، تدوس الأرض وتدمّر المزروعات تحت أقدامها. كان المشهد جحيميًا، كأن بوابة من عالم سفلي قد فُتحت لتطلق قطيعًا شيطانيًا.
مدّ الرجل يده إليّ، وأمسكني بقوة، يسحبني مبتعدًا بسرعة. لم ألتفت خلفي، فقد سمعت صوته يرتل، وورائي أصوات الصهيل والنهيق تتلاشى شيئًا فشيئًا حتى غادرنا حدود تلك الأرض الملعونة.
وصلتُ معه إلى بيته، دخلت مسرعًا وهو يغلق الباب خلفي، فوقع كل شيء في صمت خانق. كنت في حالة ذهول تام؛ جسدي يرتعش وقلبي يدق بسرعة كأنه يريد الهروب من صدري. رشّ الرجل بعض الماء البارد على وجهي، ثم تلا عليّ آيات من القرآن الكريم. شعرت حينها أنني أعود تدريجيًا إلى وعيي، رغم أن جسدي لا يزال يرتجف وملابسي مبللة وملتصقة بي.
حين نظرت إليه، تعرّفت عليه… كان نفس الرجل الذي قابلته في أول يوم على الطريق الترابي، الرجل الذي أوقفني عن مواجهة الجنية. أردت أن أشكره وأسأله، لكن لساني خانني وتلعثمت. ابتسم بحنان، وقال بصوت هادئ لكنه حازم:
ـ “لا تخف… أنت الآن بأمان. كنتُ قد حذرتك يا ولدي، يا ليتك استمعت.”
هدأت نفسي قليلًا، ثم أعطاني ذلك الرجل الطيب، العم عثمان، ملابس جافة لأبدّلها وكوب شاي دافئ يريح أعصابي. جلس بقربي وبدأ يحدّثني عن الأرض الملعونة.
قال بجدية:
ـ “الآن عرفتَ الحقيقة… ما يُحكى عن تلك الأرض ليس مجرد خرافات. قبل ثلاثين سنة كانت جنة خضراء، خصبة مليئة بالحياة. لكن شيئًا ما تغيّر… الجن استولوا عليها.”
ارتجف قلبي عند سماع ذلك، فاندفعت أسأله:
ـ “ولكن لماذا؟ لماذا استولى الجن على هذه الأرض بالذات؟”
تنهد العم عثمان طويلًا، ثم أخذ رشفة من الشاي وقال بصوت خافت حزين:
ـ “من الجهل والخوف بدأ كل شيء… قبل ثلاثين سنة كانت هناك فتاة جميلة وطيبة في قريتنا. لكنها كانت مسكونة بالجن كما يُقال. كل ليلة تهيم في القرية والجبال، ولم تؤذِ أحدًا قط. لكن في يوم أسود اقتادها مجموعة من الشباب إلى هذه الأرض… اعتدوا عليها بوحشية، ولم يكتفوا بذلك، بل دفنوها هناك.”
ارتجفت وأنا أستمع، والدم يغلي في عروقي من الرعب والغضب. تابع العم عثمان:
ـ “منذ ذلك الحين بدأت الأمور الغريبة. كل يوم نجد أحد هؤلاء الشباب ملقى في الأرض، ميتًا بطريقة وحشية. حتى بعدما اعترف أحدهم… لم ينتهِ الرعب. صارت الأرض منذ ذلك اليوم محظورة على البشر، والجن لم يتركوا مكانها قط.”
جلست صامتًا أحاول استيعاب ما سمعت. كل خوفي، كل الأحداث الغريبة، صارت جزءًا من هذه اللعنة القديمة. هذه الأرض… أرضي، التي استحوذ عليها الجن واحتفظت بفتاتها الغاضبة منذ ثلاثين سنة.
… (ثم تمتد الأحداث: عودة سلمان إلى المدينة، محاولته الاستعانة بالرقاة، ظهور الجنية مجددًا بصورة فاتنة تحاول إغواؤه، تحوّلها المرعب، هجوم الأفاعي، مقاومته بالقرآن، عودته مطاردًا إلى القرية، ثم اكتشافه عبر الأحلام حقيقة الفتاة واللعنة، وصول الشيخ العجوز لمعالجته، وأخيرًا قراره بيع الأرض وتركها بلا رجعة، متعلمًا أن بعض الأبواب إذا فُتحت لا تُغلق إلا بالخسارة، وأن النجاة في الهرب لا في التمسك بما هو ملعون.)