الشعور بالانفصال عن الجسد: تجربة تُعلّق الوعي بين عالمين


بقلم:احمد شاشي
هل حدث يومًا أن نظرت إلى جسدك كما لو كان غريبًا عنك؟ أن تشعر أنك تراقب نفسك من بعيد، بلا قدرة على التحكم في ما يحدث؟
تلك اللحظة التي تنفصل فيها “الأنا” عن الجسد ليست مجرد تخيّل؛ إنها واحدة من أكثر الحالات الإنسانية غموضًا وإثارة للدهشة، يصفها البعض كرحلة مؤقتة خارج الجسد، ويعيشها آخرون ككابوس واقعي يتركهم في حيرة لسنوات.
يُطلق عليها العلماء اسم تجربة الخروج من الجسد أو Out of Body Experience، ويصفها مَن مرّ بها بأنها أقرب إلى الحدّ الفاصل بين الحياة والموت، الوعي والنوم، الحقيقة والوهم.
لحظة الانفصال: حين يصبح الجسد شيئًا مرئيًا
تبدأ التجربة غالبًا بشعور غريب، كأن شيئًا ما يُسحب منك ببطء، روحك تتراجع خطوة إلى الخلف، تراقب دون أن تتحكم. يتحدث أشخاص خاضوا التجربة عن إحساس طفيف بخفة الجسد، يليه دوران بسيط في الرأس، ثم فجأة… تجد نفسك تنظر إلى جسدك النائم أسفل منك.
تصف “سارة”، وهي طبيبة تبلغ من العمر ثلاثين عامًا، تجربتها قائلة:
“كنت مريضة بالحمى في تلك الليلة. ارتفعت حرارتي فجأة، ثم شعرت أني خرجت من جسدي. رأيت نفسي نائمة، كان وجهي شاحبًا جدًا. الغريب أني لم أشعر بالخوف، فقط انبهار وسكون، كأن جسدي لم يعد لي.”
ويقول آخرون إنهم يشعرون بالألم لحظات، ثم يختفي كل شيء. كأن حدود الحواس تتعطل ويصبح الإدراك حرًّا بلا قيود حسية. البعض يرون أنفسهم يحلقون فوق السرير، والبعض الآخر يرون وجوههم وانعكاسهم على السقف أو المرايا.
وفي حالات نادرة، يتجاوز الشخص المراقبة الذاتية نحو مشاهد أوسع، فينقل أنه رأى شوارع أو منازل لم يكن فيها من قبل، ثم يتضح لاحقًا أن تلك الأماكن موجودة بالفعل. هنا تبدأ الأسئلة الأكثر غموضًا: هل خرج الوعي حقًا عن الجسد؟ أم أن العقل يخلق وهماً مدهشًا لتفسير اضطرابٍ داخلي شديد؟
قصة بين الوعي والموت
رائد فضاء أمريكي كتب في مذكراته أنه أثناء مهمة خارج المحطة شعر فجأة كأنه يطفو داخل جسده وخارجه في آن واحد، يسمع أصوات زملائه البعيدة دون أن يتحكم في الرد. ظنّ للحظة أنه مات، لكنه عاد بعدها لأنظمة التنفس الاصطناعي.
وفي حالات النوبات القلبية، يروي بعض المرضى الذين نجوا من الموت السريري أنهم شاهدوا أجسادهم على سرير العمليات، يسمعون كلام الأطباء بلا أن يتمكنوا من الكلام. أحدهم قال:
“كنت أرى كل شيء من الأعلى. رأيتهم يحاولون إنعاشي، وحين صرخت، لم يسمعني أحد. ثم عاد كل شيء إلى السواد.”
هذه التجارب لا تخص ثقافة أو ديانة معينة؛ سُجلت حالات مشابهة في الشرق والغرب، لدى المؤمنين والملحدين، الشباب وكبار السن، ما يوحي أن الظاهرة ليست خرافة روحية محصورة، بل حالة إنسانية عميقة تتكرر بطرق مختلفة عبر التاريخ.
الوجه العلمي للتجربة
من زاوية الطب العصبي، يفسر العلماء الظاهرة باضطرابات مؤقتة في الفص الجداري الأيمن من الدماغ، وهو الجزء المسؤول عن الإحساس بالحدود المكانية للجسد.
يقول البروفيسور “أولاف بلانكي” من جامعة جنيف، أحد أبرز الباحثين في الظاهرة: عندما يتعرض هذا الفص لتشويش كهربائي أو خلل في الإشارات الحسية بين البصر واللمس، يخلق الدماغ وهمًا بأن الشخص موجود في مكان آخر غير جسده.
أي إن ما يراه الفرد ليس خروجًا حقيقيًا، بل “إعادة بناء إدراكية” لموقع الذات.
لكن، حتى مع هذا التفسير، تبقى علامات استفهام كبيرة. كيف يمكن لعقل مشوش بالإجهاد أو قلة الأوكسجين أن يولّد مشهدًا يتطابق أحيانًا مع ما يوجد فعلاً خارج مجال الرؤية؟ وكيف يتذكر الناجون من الموت معلومات دقيقة وقعت أثناء غيابهم السريري؟
البعض يرى أن العقل الواعي يملك قدرات غير مكتشفة تتجاوز المفهوم المادي للوجود. وبين التفسير العصبي والرؤية الروحية، تظل الفجوة قائمة، لا يسدها منطق ولا تجربة.
الجسد كقيد، والوعي كأفق
في لحظة الانفصال، يصف أغلب مَن خاضوا التجربة إحساسًا غامضًا بالسلام، كأنهم تحرروا من ثقل الجسد.
يقول أحدهم:
“كنت أرى العالم أوضح، الألوان أعمق، لا ألم، لا خوف. كنت أتنفّس الضوء.”
آخرون وصفوا التجربة بشكل أكثر رعبًا، خاصة عندما شعروا بالعجز عن العودة، وكأن قوة مجهولة تسحبهم بعيدًا. هناك من صرخ ولم يخرج صوته، ومن شعر بأن الوقت اختفى تمامًا، وكأن الدقيقة تحولت إلى أبدية.
من الناحية النفسية، قد تمثل الحالة رد فعل طبيعيًا على ضغط عصبي أو صدمات عاطفية حادة. حين يعجز الدماغ عن معالجة الألم، يفصل الوعي عن الإحساس الجسدي مؤقتًا لحمايتنا من الانهيار. إنها آلية دفاعية بحتة، لكنها في بعض الأحيان تتخذ شكلًا خارقًا للعادة.
بين الطب والروح
التفسيرات العلمية تظلّ محصورة في نطاق الدماغ والكهربية العصبية. غير أن التقاليد الروحية القديمة — في البوذية والهندوسية والإسلام الصوفي وغيرهم — تتحدث عن “الرحلات الروحية” و”الإسقاط النجمي”، وعن قدرة الروح على مغادرة الجسد مؤقتًا أثناء النوم أو التأمل أو الغيبوبة.
يقول بعض الرهبان إنهم يصلون إلى مرحلة يراقبون فيها أجسادهم كمن يراها من مكان عالٍ، ويعتبرها دليلاً على سموّ الروح حين تتحرر من رغبات المادة.
في المقابل، يرى علماء النفس أن هذا الوصف ليس أكثر من نشاط دماغي معقد يولّد شعورًا بالانفصال.
وبين الرؤيتين، قد يكون الجواب في المنتصف: ربما لا يتعلق الأمر بخروج “شيء” فعلي من الجسد، بل بتوسّع إدراك الإنسان ليشمل صورة جديدة لذاته، تتجاوز جلده وعظامه نحو الفضاء المحيط به.
من عاش التجربة… لا يعود كما كان
بعد العودة إلى “الداخل”، كثير من الناس يؤكدون أنهم تغيّروا جذريًا. لم يعد الخوف من الموت كما كان، ولم تعد الماديات تملك نفس القيمة. هناك من أصبح أكثر إيمانًا، ومن قرر تغيير مسار حياته بالكامل.
تصف “ليلى”، معلمة عاشت التجربة بعد حادث سير مروّع:
“كنت معلقة في الهواء، أرى السيارة مقلوبة، وأنظر إلى جسدي بين الحديد. كنت أتساءل كيف يمكن أن أكون هناك وهنا في آن واحد. عندما استيقظت في المستشفى، بكيت طويلاً، لكنني لم أعد أخاف الموت.”
البعض يكتسب حساسية مفرطة تجاه كل ما يتعلق بالزمان والمكان، وآخرون يصبحون أكثر هدوءًا، كأنهم لمسوا شيئًا من الجهة الأخرى.
قد تكون التجربة مؤلمة أحيانًا، لكنها دائمًا تترك أثرًا لا يُمحى.
أين يبدأ الوعي؟ وأين ينتهي؟
إذا كانت تجربة الانفصال عن الجسد مجرد وهم دماغي، فمن أين يأتي ذلك الشعور الحقيقي بالمشاهدة؟
وإذا كانت خروجًا فعليًا للروح، فكيف يمكن للعقل أن يسجل الحدث ويختزنه؟
الحدود بين التفسيرين تبقى غائمة. ربما لا يتعلق السؤال بـ “ماذا حدث؟”، بل بـ “من نحن فعلاً؟”.
هل نحن الجسد الذي يُرى ويُلمس، أم الوعي الذي يراه؟
هل الجسد هو بيت الروح أم قيدها؟
عند نقطة ما، حين يتوقف كل شيء، لا يبقى سوى الإدراك الصافي.
ويبدو أن تجربة الانفصال عن الجسد تكشف لمحة عابرة من هذا الإدراك العظيم، تلك اللحظة التي يدرك فيها الإنسان أن وجوده أعمق من اللحم والعظم، وأوسع من حدوده المكانية.
الوعي الغامض
في نهاية المطاف، لا يمكن الجزم بالحقيقة الكاملة لتجربة الخروج من الجسد.
العلم يفسرها بالخلل العصبي، والفلسفة تراها لحظة انفتاح روحي، أما التجربة الإنسانية نفسها فتقول أكثر من ذلك بكثير.
ربما يعيش فيها الإنسان ما يشبه “لمحة من الموت”، أو مجرد حلم انكسر حدوده. لكنها بلا شك تغير نظرتنا للحياة، وتجعلنا نتساءل:
إذا كنا نستطيع أن نرى أجسادنا من الخارج، فهل نحن فعلاً نعيش داخلها؟
أم أن الجسد نفسه هو الذي يعيش داخلنا، كصورة عابرة في وعي أوسع من كل الحواس؟
بين العلم والغيب، يبقى الشعور بالانفصال عن الجسد لغزًا يذكّرنا بأننا لسنا مجرد كائنات بيولوجية، بل وعياً يبحث عن موطنه الحقيقي، في عالم لا يُدرك إلا حين نغادره… ولو للحظة واحدة.



