

بقلم:سارق الاطياف
لم تكن تلك الليلة تشبه غيرها؛ الهواء كان ثقيلاً كأنه يحمل سرًّا لا يريد أن يُقال. أحيانًا، لا يحتاج الإنسان أكثر من لحظة واحدة… لحظة غضب، أو خوف، أو تهور… ليغيّر مصيره إلى الأبد.
صاحب قصتنا لم يكن يعلم أن القرار الذي اتخذه في تلك الثواني المظلمة سيطارد روحه لسنوات، ولن يترك له فرصة للعودة أو الاعتذار أو الهرب. ما حدث تلك الليلة… لم يكن مجرد خطأ. كان بداية كل شيء.
اسمي أحمد، وقد نشأت في عائلة كبيرة مكوّنة من ثمانية أفراد. كنت الابن الأوسط، وإخواني متقاربون في العمر. وحين بلغت السادسة عشرة لاحظت أن تعامل والدي ووالدتي معي تغيّر؛ لم يعودا يسألان عني أو يعطونني مصروفي، وكأنني لا أُرى داخل المنزل. وكنت أعزّ نفسي فلا أطلب منهم شيئًا، فصرت أذهب إلى المدرسة دون طعام، وأصوم حتى انتهاء الدوام.
مرت السنوات، واشتدّ هذا الإهمال. وعندما تخرجت من الثانوية حصلت على وظيفة جيدة، لكن والدي ووالدتي أصرّا على أن أُقسّم راتبي بيني وبين إخوتي، رغم أنهم لا يعملون ولا يسعون للبحث عن عمل. فكنت أصرف راتبي عليهم، ولا يبقى لي إلا القليل، ومع ذلك صبرت مراعاةً لوالدتي.
وبعد ثمانية أشهر، بدأت المشاكل في عملي؛ كان المدير يعتمد علي أكثر من بقية الموظفين، فحسدوني وبدؤوا يستفزّونني حتى وقع يومٌ غضبت فيه ودفعت أحدهم حين اعتدى علي، فسقط وارتطم رأسه بالحديد وأغمي عليه. اتهموني بالشروع في القتل، وشهد بعض زملائي ضدي ظلمًا، فحُكم علي بالسجن سنة ونصف، وانفصلت من عملي. وبدل أن يقف أهلي معي، صاروا يلومونني ويصفونني بـ«خريج السجون».
قضيت في السجن أحد عشر شهرًا حتى صدر عفو عام. خرجت، لكن حياتي كانت قد تبدلت؛ لا عمل يقبلني، وأهلي صاروا يضيقون بوجودي. عندها قررت أن أغادر المنزل وأقيم فترة في ديوانية صديقيَ إبراهيم وسامر.
اتصلت بـ إبراهيم، فأخبرني أنهم نقلوا الديوانية إلى مكان جديد خارج المحافظة، ولا يفصلها عن المقبرة المهجورة إلا بضعة أمتار. ترددت، لكنني ذهبت. وصلت ليلًا، وكنت متعبًا، فاستلقيت لأنام. فجأة سمعت طرقًا على الباب، وحين فتحته لم أجد أحدًا. وعندما تكرر الأمر وفتحت الباب مجددًا، وجدت رجلًا غريب المظهر تفوح منه رائحة تراب وعفن، وقد عرف اسمي دون أن أُعرّفه بنفسي. قال إنه صديق لإبراهيم، فجلست معه قليلًا، لكن تصرفاته كانت غريبة، ظل يحدّق في السقف والفراغ بصمت، ثم نهض وخرج دون كلمة. تبعته بنظري، فرأيته يدخل المقبرة ويختفي بين القبور!
ارتعبت، وغادرت الديوانية فورًا واتصلت بإبراهيم. قال لي ألا أقلق، وأن بعض الشباب اختصروا الطريق عبر المقبرة من قبل. عدت إلى الديوانية وقضيت تلك الليلة بصعوبة، ثم جاءني إبراهيم صباحًا، وتحدثنا طويلًا عن كل ما مررت به، ووعدني أن يقف معي مثل الأخ.
لكن ما لم أكن أعلمه… أن وجود صالح، ذلك الغريب الذي دخل المقبرة، لم يكن أمرًا عابرًا… وأن تلك الليلة كانت البداية فقط.
بعد أن غادر إبراهيم الديوانية متجهًا مع أهله إلى مكة ليقيموا هناك أسبوعًا كاملًا، علمت أنني لن أراه خلال تلك الفترة. ودّعته وقلت له: “اذهب، بارك الله فيك، ولا تنسَ أن تدعو لي عند الحرم.” ثم انقطعت اتصالاتنا بعدها تمامًا.
في مساء ذلك اليوم، بعد صلاة المغرب، خرجت إلى باب الديوانية لأتمشى قليلًا، وكنت أدخّن – عذرًا على ذلك. وبينما كنت أمشي، وقعت عيني على باب المقبرة القريبة، وكان مفتوحًا، على خلاف ما كان عليه بالأمس. ركزت النظر من بعيد لأرى إن كان أحد بالداخل، فظهر أمامي مشهد غريب: قطة سوداء تهاجم كلبًا – أعزكم الله – داخل المقبرة. هرب الكلب خارجها، وتبعته القطة. ظننت حينها أن الحيوانين هما من فتح الباب.
لكن ما صدمت به أكثر: بعد خروج الحيوانين، لاحظت حركة أخرى داخل المقبرة، ثم رأيت رجلاً يقف خلف بابها، ينظر إلي مباشرة، ثم أغلق الباب بهدوء، وكأنه صاحب المكان.
ارتعبت وعدت مسرعًا إلى الديوانية. كان السؤال الذي يلتهب في رأسي:
هل ما رأيته حقيقي؟ وهل تلك القطة هي نفسها التي أزعجتني ليلة الأمس؟ بدا الأمر وكأنه ليس مصادفة.
قررت حينها أن أخرج بدراجتي النارية لأهدّئ أعصابي. كانت المنطقة مظلمة جدًا، ولا مصدر للإضاءة سوى مصباح واحد عند باب الديوانية. وبينما كنت أمر بجانب المقبرة، خُيّل إلي أنني سمعت صوتًا يتحدث بداخلها. لم أستطع التفريق بين الحقيقة والوهم.
وصلت إلى شارع منار، ووقفت أراقب المقبرة من بعيد. كانت الأشجار تغطيها بالكامل، والطريق المؤدي إليها صعب جدًا. فكيف كان صالح — صديق إبراهيم المزعوم — يمر داخلها ليصل إلى بيته كما قال إبراهيم؟ لا بد من وجود سر.
بعد دقائق عدت إلى الديوانية، ولما اقتربت منها لاحظت أن الباب مفتوح، وسمعت أصوات ضحك من الداخل. ظننت أن رفاق إبراهيم قد حضروا، فدخلت.
ولكنني وجدت صالح وحده. نفس الرجل الغريب، بنفس الرائحة الكريهة، ونفس الملابس المغطاة بالتراب. والغريب أنني كنت قبل لحظات أسمع أصواتًا كثيرة وكأن المكان مليء بالناس، لكن لا أحد موجود سواه.
لاحظت أنه هذه المرة يعرج، وساقه اليمنى أقصر بكثير من اليسرى، ولم أكن أراه هكذا في المرة الأولى. وبعد أن خرج، أغلقت الباب خلفه، وجلست أفكر مطولًا: هل أعود إلى بيت أهلي؟ لكنهم لم يسألوا عني منذ غبت… فآثرت البقاء.
غلبني النوم. لا أعلم كم ساعة نمت. لكن فجأة، انفتح الباب بعنف، ودخل إبراهيم وسامر وصالح. كانوا يتحدثون ويضحكون دون أن يلتفتوا نحوي، وكأنهم لا يرون وجودي أصلًا. وبينما كان إبراهيم يتحدث، لاحظت أن صوته تغيّر للحظة، ثم عاد لطبيعته. كان الأمر مريبًا للغاية.
نمت مجددًا رغم خوفي.
في اليوم التالي، أردت الخروج إلى الحمّام الخارجي، فاكتشفت أن الباب مُقفل والمفتاح غير موجود، وهاتفي ودراجة نارية مفقودان أيضًا. لا شباب، ولا سيارة، ولا نافذة، ولا أحد يسمع الصراخ في هذا المكان البعيد.
حلّ الظلام، ولم يكن في الديوانية أي مصباح يمكن تشغيله من الداخل، فغمرتني العتمة. ومع الصمت، سمعت خطوات تتقدم نحو الباب. ناديت قائلًا:
“من هناك؟ أرجوك افتح الباب.”
فجاءني صوت امرأة كبيرة تقول:
“وأنت ما الذي جاء بك إلى هنا؟“
ثم اختفى الصوت.
كان صوتها مألوفًا بشكل مرعب… وبعد تفكير، تذكرت أنها صوت “أم يحيى”، آخر من دفن في هذه المقبرة قبل عشر سنوات!
ثم بدأت أسمع حركات داخل الديوانية نفسها… كأن أحدًا يمشي معي في الظلام. وفجأة سقط أحد المصابيح وانفجر، ثم بدأ بكاء ينبعث بجوار أذني مباشرة. لم أعد أملك سوى البكاء.
غطيت نفسي بالبطانية وجلست في زاوية. ولمّا كشفت رأسي بعد لحظات… رأيت قطة سوداء عند الباب، والباب كان مفتوحًا. نهضت وركضت خارجًا، نحو الشارع، دون أن ألتفت.
مررت بجانب المقبرة، ورأيت امرأة تنزل إلى أحد القبور… كانت واضحة تمامًا… وكانت هي… أم يحيى.
ركضت بلا توقف حتى التقيت مجموعة أطفال كانوا يلعبون بدراجاتهم، وحين رأوني باكيًا هربوا خائفين. وبعد دقائق وصلت سيارات رجال من الحي، وسألوني عن حالي. أخبرتهم بكل ما حدث، فأخذني أحدهم إلى بيتي.
وحين رآني والداي منهارًا بكيا معي. وعندها فقط اكتشفت أن إخوتي كانوا يكذبون عليهم ويخبرونهم بأنني خرجت مع أصدقائي، حتى لا يسألوا عني. كانوا يملأون قلب والديّ علي حسدًا وغيرة، لأنني كنت الوحيد الذي يعمل وينفق.
بعد أن أخبرت أبي بالحقيقة، أعلن الأمر في المحافظة، وانتشر الخبر، وتوجّهت فرق مختصة إلى المنطقة. حفروا حول المقبرة والديوانية، ليكتشفوا أكثر من 120 جثة مدفونة خارج حدود المقبرة الأساسية. واتضح أن الديوانية مبنية فوق مقبرة قديمة لم يكن أحد يعلم بوجودها.
تمّ شراء الأرض من صاحبها، وهُدمت الديوانية، وضُمّت المنطقة كلها إلى المقبرة، وبُني سور كامل يحيط بها.
وأما القبر الذي رأيت المرأة تدخل إليه… فقد كان قبر أم يحيى حقًا.
اليوم، أنا أحمد:
عدت لحياتي، عملت بوظيفة جديدة، تزوجت، ورُزقت بطفل وطفلة.
أما والداي فقد توفاهما الله ، رحمهم الله.
وإخوتي ما زالوا كما هم… لم يتغيروا.
الحسد والغيرة مقبرة القلوب…
لا تدفنوا أنفسكم بأيديكم.



