الحيوانات في الحضارة

الأفعى في الحضارات القديمة

بقلم: منقي العبرات

الأفعى بين المعتقدات الدينية والتاريخ والحضارة والأساطير

منذ فجر التاريخ، شكّلت الأفعى واحدة من أكثر الرموز إثارة للجدل في المخيلة الإنسانية. فهي كائن يثير الرهبة والدهشة في آن واحد، يجمع بين الخوف والجاذبية، وبين الحكمة والخطيئة، وبين الموت والشفاء. قد يكون لهذا التناقض جذور في طبيعة الأفعى نفسها: فهي زاحفة ماكرة، قادرة على الاختفاء والظهور فجأة، وعلى تغيير جلدها بما يشبه الولادة الجديدة. هذه الصفات جعلت منها رمزاً متشعب المعاني عبر الأديان والتقاليد والحضارات، حتى غدت الأفعى أيقونة رمزية تمتد من النصوص الدينية إلى الأساطير، ومن الطقوس العلاجية إلى الفنون البصرية.

### الأفعى في المعتقدات الدينية

#### 1. في الديانات الإبراهيمية

الأفعى ارتبطت في النصوص اليهودية والمسيحية والإسلامية برمز الإغواء والخطيئة الأولى. ففي قصة خلق الإنسان، ظهرت الأفعى كوسيط بين الشر والإنسان، حيث أوحت للإنسان الأول بفعل ما نُهي عنه. هذا الدور جعلها في الوعي الديني رمزاً للشيطان، وللخداع والمكر. ومن هنا تكرّس حضورها ككائن يحمل دلالات سلبية في التصورات الإبراهيمية، وإن لم يخلُ من إشارات أخرى تربطها بالقوة أو العقاب الإلهي.

#### 2. في الديانات الشرقية

في الهندوسية والبوذية، نجد للأفعى حضوراً مختلفاً. فهي تجسيد لـ *الـ”ناغا”*، وهي كائنات نصفها بشري ونصفها أفعى، تعيش في العوالم المائية والباطنية. تمثل الناغا الحماية والخصوبة، وهي حراس للأنهار والينابيع، كما ارتبطت بالمعرفة الباطنية. كذلك، في بعض التقاليد البوذية، تُصوَّر الأفعى ككائن يحمي الحكماء والمتأملين، مثلما حدث مع بوذا حين ظلّت أفعى كبرى تظلّله أثناء التأمل تحت المطر.

#### 3. في الديانة المصرية القديمة

الأفعى كانت عنصراً محورياً في الميثولوجيا المصرية. الإلهة *واجيت، إلهة الحماية، كانت تُصوَّر على هيئة أفعى كوبرا، تلتف حول جبهة الفرعون لتحميه من الأعداء. وفي المقابل، نجد الأفعى **أبوبيس* كرمز للفوضى والظلام، العدو الأبدي للإله رع. هنا نجد التناقض ذاته: الأفعى حامية ومدمّرة في الوقت نفسه، تجسيد للثنائية الكونية بين النظام والفوضى.

1. بلاد الرافدين

في حضارات ما بين النهرين، كان للأفعى حضور بارز في الأساطير السومرية والبابلية. ارتبطت الأفعى بأسطورة الخلود، كما ورد في ملحمة جلجامش، حين سرقت الأفعى نبتة الشباب الأبدي. وهكذا صارت رمزاً للقدرة على التجدد والخلود، وفي الوقت نفسه رمزاً للحرمان الإنساني من هذا الامتياز.

2. الحضارة اليونانية

الأفعى في الثقافة اليونانية ارتبطت بالطب والشفاء. فالإله *أسكليبيوس*، إله الطب، كان يُرمز إليه بعصا يلتف حولها ثعبان. هذا الرمز لا يزال حيّاً حتى اليوم في شعار الطب والصيدلة. كما ارتبطت الأفعى بآلهة أخرى مثل أثينا، حيث كانت ترمز للحكمة والقوة الخفية. وفي المقابل، نجد الأفعى أيضاً في الأساطير المخيفة مثل قصة ميدوسا، التي كان شعرها مكوّناً من أفاعٍ تبث الرعب والموت.

3. حضارات الأمريكيتين

في حضارة الأزتك والمايا، ظهرت الأفعى كرمز كوني مقدّس. الإله *كيتزالكواتل* (الأفعى المريشة) كان إلهاً للمعرفة والرحمة والخصوبة، وهو أحد أبرز الآلهة في الميثولوجيا الأمريكية القديمة. هذا التصور جعل من الأفعى كائناً إلهياً يجمع بين السماء والأرض، بين الروح والمادة.

الأفعى في الفلسفات والأساطير

1. رمز التجدد والخلود

عملية تغيير جلد الأفعى جعلتها رمزاً متكرراً للتجدد والبعث. في الفلسفات الغنوصية والهرمسية، كانت الأفعى تمثل دورة الحياة والموت والانبعاث. وهذا ما يتجلى في رمز *الأوروبوروس*—الأفعى التي تلتهم ذيلها—كصورة مكتملة للدورة الكونية، حيث البداية والنهاية تتحدان.

2. رمز الحكمة والمعرفة

الأفعى ارتبطت بالمعرفة الباطنية والسرية، فهي كائن يعيش في الجحور، قريب من باطن الأرض، وكأنها تحمل أسرار الطبيعة. في بعض التقاليد، كانت الأفعى مرشداً روحياً، أو دليلاً على طرق الحكمة الباطنة، كما في بعض الطقوس الشامانية لدى الشعوب الأصلية.

3. رمز الخوف والشر

في المقابل، الخوف الغريزي من الأفاعي جعلها رمزاً للشر والظلام. كثير من الأساطير الشعبية تحكي عن أفاعٍ عملاقة تحرس الكنوز أو تبتلع الناس. هذه الصورة السوداوية تعكس الجانب النفسي العميق للخوف الفطري من الزواحف السامة.

الأفعى بين الطب والرموز الحديثة

لم يقتصر حضور الأفعى على الميثولوجيا والدين، بل امتد إلى مجالات الطب والعلوم. عصا أسكليبيوس، كما ذكرنا، أصبحت شعاراً عالمياً للطب. وهذا يعكس جانباً آخر للأفعى: فهي مصدر للسم القاتل، لكنها أيضاً مصدر للعلاج والدواء، إذ تُستخرج مركبات دوائية من سمومها لعلاج أمراض مختلفة مثل ارتفاع ضغط الدم أو اضطرابات الأعصاب. هذه المفارقة بين السم والشفاء جعلت الأفعى رمزاً للثنائية الدائمة: الموت والحياة.

الأفعى في الفنون والأدب

منذ العصور القديمة وحتى العصر الحديث، ألهمت الأفعى الفنانين والأدباء. فقد ظهرت في الجداريات المصرية، وفي النقوش اليونانية، وفي الزخارف الإسلامية كعنصر زخرفي رمزي. وفي الأدب الحديث، استُخدمت الأفعى كرمز للغواية أو الخطر أو حتى الحكمة. ومن اللافت أن صورتها تتأرجح دوماً بين السلب والإيجاب، مما يجعلها رمزاً مفتوحاً للتأويل.

وفي النهاية

الأفعى ليست مجرد كائن زاحف يثير الخوف، بل رمز إنساني عميق تراكمت حوله المعاني على مر العصور. فهي في آن واحد رمز للحياة والموت، للخير والشر، للحماية والتهديد، للحكمة والخطيئة. هذه الثنائية تعكس طبيعة الإنسان نفسه وصراعاته الداخلية. ربما لهذا السبب بقيت الأفعى حاضرة في الدين والأسطورة والفن والطب، وستظل رمزاً مفتوحاً يحمل من المرونة ما يسمح له بالتكيف مع مختلف السياقات الثقافية والفكرية.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

You cannot copy content of this page

arArabic

أنت تستخدم إضافة Adblock

الرجاء اغلاق حاجب الاعلانات