نقاش مع مشعوذ


بقلم: عبده علي الفهد
خذت إجازة من العمل، وصلت منزلي السابعة مساء، دخلت حاملاً بعض الخضر والفاكهة وقطع الحلوى. استقبلني أفراد العائلة بحفاوة وترحاب. تناولت معهم طعام العشاء، وتبادلنا الحديث والسمر. الساعة العاشرة، دخلت غرفتي مع زوجتي. نمنا حسب العادة، على السرير، في هناء وسرور. بعد صلاة الفجر؛ عدت للنوم، صحيت الثامنة والنصف، بعد أن سمعت طنيناً في دماغي، لم أعير ذلك اهتماماً لأنها لم تكن مؤلمة. نهضت من السرير، خرجت إلى حوش البيت، وجدت بعض أفراد الأسرة، جلست إلى جوارهم. قلت: الجو اليوم ليس صافياً، إنها غمرة شديدة!! نظروا إليّ باستغراب: الجو صافٍ نقي لا يوجد غمرة. قمت بفرك عيوني مرتين، ثم أغمضت عيناً وفتحت عيناً. للأسف لا شيء تغير؛ الغمرة باقية والضباب. وكأنني أفتح عيناي تحت سطح الماء أثناء الغوص. عدت إلى الداخل، لم أحس بأي مشكلة بالنظر في الداخل. خرجت مرة أخرى؛ وجدت الغمرة والضباب بمجرد خروجي من الباب!! كررت فرك عيناي، طرقت على رأسي بيدي. نظروا إليّ بتعجب، وكان عجبي أشد!. كررت الدخول والخروج؛ وجدت أن المشكلة في النظر في الخارج والجو مشمس، بينما في الداخل يستقر النظر. قررت العودة للسرير والنوم، لعل وعسى أن تذهب المشكلة. نمت حتى الوحدة ظهراً؛ خرجت للشارع، لم يطرأ أي تغيير، الضباب باق. في المساء شاهدت حول مصابيح النور؛ هالة وضباب، وصعوبة في مشاهدة التلفاز!. وعدم قدرتي على تمييز الأشخاص؛ على بعد خمس خطوات. اليوم التالي؛ ذهبت المستشفى، أحالوني إلى أخصائي عيون، باشر بإجراء الفحوصات؛ إنها بداية مياه بيضاء. كيف حدث ذلك وعمرك لا يزال في الثلاثينات!. اعتدنا أن هذه المياه تصيب من بلغ الستينات. أعطوني أدوية وقطرة. كنت أظنها مشكلة عابرة، مرّت عدة شهور؛ وأنا بين ذهاب وعودة لدى الأطباء، واستعمال أدوية، لا فائدة فقد ظل الحال كما هو عليه. يئست من الأدوية؛ فتركت استعمالها، ارتدت حمامات بخارية، ثم حمامات بركانية. أحسست بصحة في كل أعضاء جسمي؛ عدا عيناي ظلت معتمة. تلقيت النصائح من الذاهب والغادي، حول تفسير ما جرى لي: البعض قال: عين حاسد، والبعض قال: ريح، سحر، أم الصبيان، ومنهم من دلني على البخور بالحلتيت، وشعر الضان. والبعض قال: عليك الاكتحال بذيل فأر، وذنب ثعبان، وفلفل حار. ففعلت ما ذكر سابقاً دون تأخير، فلم يحدث تغيير. من قرية مجاورة زارني قريب؛ دلني على معالج جديد، أن لديه قدرة على إخراج الطوارق والطلاسم والأسحار، وفك الربوط، أعطاني عنوان المعالج. عقدت العزم على الذهاب إليه. أحد أيام رمضان؛ وصلت المنطقة، سألت عن المعالج، فدلوني. اشتريت كمية من القات وبعض الخضار، ولوازم الإفطار. كان البيت غير بعيد عن الخط، في نجد بارز عن القرية منفرد، ثلاث غرف وحوش صغير مبني بالبردين البلك، وكوم حطب جوار البيت. وصلت قبل المغيب، كان المكان شبه مقفر، لا أطفال ولا بشر. طرقت الباب طرق خائف، بقيت برهة واقف، طرقت من جديد، فتح الباب؛ فألقيت التحية، فبادر بالترحيب والسلام. هذا بيت المعالج؟ نعم! تفضل بالدخول! دخلت خلفه؛ يرتدي شبشب وثوب أبيض، أسمر البشرة يكسو جسده الشعر، ليس له لحية ولا عمامة مكشوف الرأس، في الستينات من عمره، أسنانه متفرقة متكلسة. وضعت ما أحمل من أغراض، فأخذها وأدخلها الغرفة ثم عاد إليّ. سألته: أين المعالج؟ رد: ماذا تريد؟ أريد أن يعالجني!. أنا المعالج؛ استرح، بعد طعام الإفطار يكون العلاج. أدخلني غرفة صغيرة، أجلسني على فرش وقال: ارتاح هنا حتى يحين موعد آذان المغرب. قدم لنا الفطور فطرنا بمفردنا بعد أن صلينا. وأثناء تناول الشاي، سألني عما أعاني! فشرحت له ما حصل. نهض وقال: اتبعني، أدخلني غرفة شبه مظلمة، وقال: امتد على هذا الفرش. وبعد أن امتددت طلب مني أن أسترخي وأتوقف عن تحريك أي عضو من أعضاء جسمي. وأن أبقي عيناي مفتوحتين، وأن أنظر إلى موضع واحد في سقف الغرفة، وحذرني تحذيراً شديداً وقال: عليك أن تبقي عيناك مفتوحتين وأن تنظر إلى موضع واحد في السقف دون أن تلتفت أو تغمض. نفذت ما طلب، فتركني وخرج. بعد حوالي خمس دقائق عاد وجلس إلى جواري، وفي يده منديل أبيض، فكان يتمتم ويهفهف المنديل على وجهي، ويقول: اكشفين عليه عالجينه، اكشفوا عليه عالجوه، اكشفين على كامل جسمه عالجين عيونه، ثم خرج. بعد خمس دقائق عاد، وكرر نفس العبارات. بعدها قال: انتهت جلسة العلاج، انهض. عدنا إلى الغرفة التي تناولنا فيها طعام الإفطار، فقال: اجلس انتظر حتى يأتين بالعلاج؟ قلت: من هن؟ قال: دكاترة الجن؟ -من أين سيأتين بالعلاج؟ رد: من قمم الجبال يجمعن الأعشاب. أعطاني نصف القات، وأخذ بعض القات وأعطاه لزوجته، وعاد. جلسنا نمضغ القات ونتبادل الحديث. -لماذا أنت بمفردك بالبيت مع زوجتك ألا يوجد لديكم أطفال؟ -لم نرزق بأولاد. -لماذا لم تتزوج بأخرى؟ -سبب عدم الإنجاب ناجم عني أنا. هي ليس لها ذنب. -ما هو السبب؟ -سأشرح لك ما حدث؛ قبل مدة حدث شجار بيني وبين أخي على قطعة أرض، كان أخي يمسك بيده بندقية آلية، موجهها نحوي، يريد قتلي، فأمسكت بالبندقية من الجهة الأخرى. تهاترنا ممسكين بالبندقية، فجأة، انطلقت منها رصاصتان اخترقتا صدر أخي فمات في الحال. حكم عليّ إعدام، مكثت في السجن سبعة أعوام، فتوسط شيخ هذه القرية، لدى أولاد أخي، فعفوا عني بشرط؛ أن أترك قريتي وأتنازل عن نصيبي في الميراث في الأرض. وافقت على ذلك، أخرجني شيخ هذه القرية، وأتى بي إلى هنا وأعطاني كمية من البردين وتعاون معي في بناء هذا المنزل كفعل خير. ثم ذهب معي إلى أهل زوجتي التي بقيت طوال هذه المدة تنتظر خروجي فأتينا بها إلى هذا البيت وأقمنا فيه كما ترى. وقد عملت لدى الشيخ حارس مزارع القات. -كيف تعلمت المعالجة؟ مال على الجنب اليمين، ألقى و مضغ بعض أغصان القات ثم قال: كنت في وقت من الأوقات حارس مزارع قات الشيخ، فوقفت لأداء أحد الصلوات، فشاهدت فتاتان أمامي واقفتان، وإليّ ناظرات، بينما أتت ثالثة، استقامت جوارهن، و قالت: هيا خذينه، عالجينه، بلمح البصر حملنني إلى شاهق جبل، انفتح باب فأدخلنني فإذا أنا بمستشفى كبير، فوضعنني أمام جهاز؛ كأنه رقبة جمل، أدخلنني فيه، فخرجت من الجهة الأخرى، وقد صح جسمي من جميع العلل. حيث كانت صحتي في السجن قد تدهورت، فكنت أعاني من حصوات في الكلى، والتهاب وروماتيزم في سائر الأعضاء، والآن ها أنا صحيح البدن كما ترى فكنت أعاني من حصوات في الكلى، والتهاب وروماتيزم في سائر الأعضاء، والآن ها أنا صحيح البدن كما ترى. أكمل، هل أعطوك علاج بعد خروجك من الجهاز؟ أعطوني كيسين من الأعشاب، ثم أعادوني ووضعوني ملقى على الباب. لم تخبرني كيف تعلمت أنت المعالجة؟ رد: في اليوم الثالث ذهبت إلى نفس المكان في الوادي، استقمت وقت الزوال، ظهرت أمامي نفس الفتاتان، ألقتا إليّ بهذه الخنجر، وقالتا: كلما أردت حضورنا، ما عليك إلا أن تلعق هذه الخنجر نأتِك في الحال. نظرت إليه بتعجب وقلت: هل للجن مستشفيات وأجهزة؟ رد: نعم لديهم مستشفيات وأجهزة متطورة تفوق ما مع البشر، من ضمنها جهاز يشبه رقبة الجمل؛ يدخل المريض من جهة فيخرج من الجهة الأخرى وقد تعالج من جميع العلل. وكيف تقوم أنت بالمعالجة؟ ألعق هذه الخنجر فتأتي دكتورة ومعها ممرضتان، يأتمران بأمري، فيقمن بالكشف على المريض ومعالجته في لمح البصر. في هذه الأثناء، أُلقي إلى أرضية الغرفة بكيسين صغيرين، فقال: ها قد أتين بعلاجك من الأعشاب، شكراً لكن شكراً، انصرفن بسلام. حدث لي ارتباك، فلم أشعر من أين وقع الكيسين، من الباب أم من الشباك. قام فأعطاني الكيسين، وقال: اخلط الإثنين داخل مكحلة واكتحل قبل النوم. في هذه اللحظة وصلت سيارة. خرج ففتح، دخل شخص رد السلام وقال: معي ثلاث نساء في السيارة أتين للعلاج. قال المعالج: أدخلهن عند زوجتي، سوف أقوم بعلاجهن على انفراد. بدأ المعالج بجلسات العلاج، كنت أنا على وشك الانصراف، كان الوقت منتصف الليل تقريباً. سألت السائق عن الطريق التي سيسلكها؟ فوجدتها نفس طريقي. فقلت: ممكن أنتظر لكم وأركب معك بسيارتك؟ وافق السائق، فانتظرت حتى تم العلاج. لم يستغرق علاجهن أكثر من نصف ساعة. عاد المعالج، فإذا بستة أكياس أعشاب وقعت على أرضية الغرفة، مباشرة التقطها المعالج وقال: شكراً لكن شكراً لكن على إحضار العلاج، انصرفن بسلام. أعطى السائق الأكياس، لكل امرأة كيسين. دفع إليه السائق مبلغاً من المال مقابل كل امرأة. بينما هممت أن أعطيه قاطعني وقال: لا عليك شيء؛ فقد أحضرت فواكه وقات. خرجنا، فركبت إلى جانب السائق، بينما ركبت الثلاث في المقعد الخلفي. أثناء الطريق، دار بينهن نقاش مسموع، كل واحدة منهن تشرح ما حدث لها أثناء المعالجة، وبماذا أحست وشعرت، وماذا قال لها المعالج؟ كانت إجاباتهن متشابهة؛ طلبه عدم تحريك أعضاء الجسد أثناء الاستلقاء على الفراش. شعورهن بتخدير الجسم مع تنمل في الأطراف أثناء فترة الاستلقاء على الفراش عند المعالجة. الهفهفة بالمنديل وتوجيه نفس العبارات؛ اكشفين عليها عالجينها، اكشفوا عليها عالجوها. وهي نفس العبارات التي وجهت لي ونفس الشعور الذي شعرت به من تخدير وتنمل. في مفترق الطرق؛ نزلت بينما واصلوا السفر في الخط العام نحو محافظتهم. بت في المدينة، وصلت اليوم التالي البيت في القرية. استخدمت علاج الأعشاب الذي أعطاني، لم أحس بأي تحسن. بعد عدة شهور؛ بينما كنت في السوق لغرض شراء ملابس العيد، وقفت أمام بسطة ثياب أطفال، لم أكن أشاهد بوضوح، فدنوت، ثم جلست أتفحص الأشياء المعروضة. قال البائع: لماذا جلست وتقرب الملابس إلى أمام وجهك وكأنك لا ترى؟ رددت عليه: نعم! وشرحت له قصتي. فتأسف وقال: لازلت في عمر الشباب!. وبعد أن أخذت الملابس ودفعت له الثمن، هممت بالانصراف. فقال: انتظر! سأشرح لك قصة شخص من قريتي؛ تعرض لحادث مرور، فأصيب بضربة في رأسه، أثرت على نظره، وكانت حالته تشبه حالتك. تنقل بين المعالجين والمستشفيات مثلما فعلت أنت، بلا فائدة، بعد ذلك سافر إلى الخارج، أجرى عملية زرع عدسات، عاد إليه النظر، والآن يقود سيارة أجرة. تفاءلت واستبشرت، أعطاني اسم الشخص وعنوان قريته. بعد العيد بسبعة أيام، سافرت إليه، قابلته، وتأكدت من حالته وصحة نظره، أخبرني باسم الدولة وعنوان واسم الطبيب الذي أجرى له العملية ومبلغ التكلفة. قمت بتدبير المبلغ، وبادرت بقطع جواز. سافرت متوكلاً على الله. قابلت الدكتور، أجرى الفحوصات، أخبرني أن ما جرى لي؛ كان بداية جلطة، ناجمة عن التعرض لصدمة برد. في اليوم الثالث بعد صلاة المغرب؛ أجرى لي عملية زرع عدسة في العين اليسرى. الساعة التاسعة صباحاً؛ أتى الدكتور وفك الشاش عن عيني، مباشرة أبصرت بوضوح؛ غمرتني الفرحة والسعادة بعودة نظري، حمدت الله، وشكرت الدكتور والحاضرين، فأعطاني إذن خروج من المستشفى. بعد عشرة أيام؛ أجرى لي العملية في العين اليمنى، والحمد لله كانت ناجحة كالأولى. بعد شهر ونصف عدت إلى بلدي، وقد عاد إليّ نظري، وها أنا أكتب قصتي بيدي، بعد مضي خمسة وعشرين عاماً على إجراء العملية، لم أرتدِ نظارة، فالحمد لله على نعمة النظر. وكذب المنجمون وإن صدقوا.
تحية لإدارة الموقع
على نشر القصة
و وضع الصورة المعبرة و التي اكسبة القصة رونق خاص
تقبلوا تحياتي ✋🌹🌹
اتمنا للموقع ان يزدهر
وينجذب الية الزوار والكتاب
انشاءالله
كان موقف مرعب لحظة تساقط الاكياس على ارضية الغرفة
رائع ومبدع
مشكور مرورك وتعليقك