تجارب مرعبة

أسطورة البئر القديمة:حين واجه الراقي جنبا عاقا في قرية مسحورة

    بقلم: عابر الكلمات

    في العوالم الخفية التي تتقاطع فيها أقدار الإنس والجن، حيث تمتزج الرحمة بالخوف والإيمان بالغموض، تبدأ حكاية رجلٍ آمن بأن رسالته في الحياة هي النور الذي يبدّد ظلمات النفوس. لم يكن يظن أن طريق الرقية والعلاج الشرعي سيقوده إلى ما هو أبعد من شفاء الأجساد الممسوسة؛ إلى رحلةٍ تمسّ جوهر الوجود نفسه، وتكشف له أسرار عالمٍ موازٍ لا يُرى، لكنه حاضر في كل زاوية من حياتنا.
    هذه القصة ليست مجرد رواية عن الجن والسحر، بل هي شهادة إنسانٍ عاش بين العالمين، واكتشف أن الخير والشر لا يُقاسان بالنوع أو الجنس، بل بالنية التي تسكن القلب.

    راقٍ شرعيٌّ ومعالجٌ روحانيّ، شاء الله أن أخوض في هذا العالم الغريب منذ سنوات شبابي الأولى.
    في تلك الفترة كنت مفعمًا بالحماس، أرى نفسي فارسًا في معركةٍ لا تنتهي ضد قوى الظلام التي تتربص بالبشر.
    كان في داخلي شغفٌ لا يوصف لمساعدة الناس، وشعورٌ بالواجب تجاه كل من يعاني من ألمٍ أو مسٍّ أو سحرٍ أو كربٍ لا يُرى.

    تعلمتُ الرُّقية والعلاج على أيدي شيوخٍ من أهل العلم والصلاح، وتنقّلتُ بين المدن والقرى أطلب الحكمة والخبرة. كنت أجلس بين أيديهم بالساعات، أستمع لتجاربهم وأحفظ أدعيتهم وآياتهم، حتى شعرتُ أنني أصبحتُ متمكنًا من هذا الطريق.

    ثم بدأت رحلتي الخاصة، رحلة لا تشبه أي عملٍ آخر؛ إذ كنتُ أنتقل من بيتٍ إلى آخر أحمل معي كتاب الله وزجاجة ماء مقروءًا عليها، أواجه بها قوى خفية تسكن الأجساد وتُرهب النفوس.
    كنتُ أظن أن جميع الجن أعداء، وأن كل معركةٍ معهم واجبٌ لا مفرّ منه. كنت أقاتلهم بكل غضبٍ وشدّة، أقرأ الرقية بصوتٍ يملؤه الإيمان، غير عابئٍ بما قد يترتب على ذلك من خطرٍ أو تعب.

    لم أكن أعلم أن تلك القسوة وذلك الحماس الأعمى سيقودانني يومًا إلى لقاءٍ لم أكن مستعدًا له، إلى اليوم الذي غيّر مسار حياتي كلها.

    كنتُ في قريةٍ ريفيةٍ نائية أعالج الحالات هناك. كانت البلدة الصغيرة تحيط بها الحقول من كل جانب، لكنها مثقلةٌ بظلالٍ لا تُرى.
    حالات السحر والمس فيها كثيرة حتى إن الناس صاروا يخشون الليل كأنه كائنٌ حيٌّ يتربّص بهم.
    بقيت هناك أكثر من أسبوعٍ أتنقّل بين البيوت أقرأ الرقية وأطارد ما استطعتُ من الأرواح المؤذية.

    ولمّا انتهى عملي وهممتُ بالرحيل، جاءني رجالٌ من أطراف القرية وجوههم شاحبة كمن لم يذق النوم منذ ليالٍ. قالوا إن بالقرب من قريتهم بئرًا قديمًا مهجورًا تسكنها الجن، يسمعون عندها كلَّ ليلةٍ عزفًا حزينًا وأنغامًا غريبة تمتزج بصوت الرياح.
    يرون النار تشتعل قرب البئر حتى الفجر، فيعمّ الخوف بين الناس، فلا أحد يجرؤ على المرور من هناك ليلًا.
    وقد ظنّوا أن هذا الجني هو سبب البلاء الذي نزل بقريتهم، أصل السحر والأذى.

    حينها عزمتُ على مواجهته، وشعرتُ بنار التحدي تشتعل في صدري. قلت في نفسي:
    “إن كان هذا الجني هو من أضرَّ بأهل القرية، فلن أتركه يعبث بعد اليوم.”

    أعددتُ أغراضي تلك الليلة: المصحف، ماءً مقروءًا عليه، وبعض الأدعية المأثورة، وأشياء أخرى خاصة.
    ومع غروب الشمس انطلقتُ مع الرجال نحو المكان. كانت وجوههم مترددة يشي فيها الخوف أكثر من الجرأة، وعندما اقتربنا من أطراف البئر تراجع الجميع، قالوا إنهم لا يستطيعون التقدم خطوةً أخرى.

    لم أرد أن أُجبرهم، فمضيتُ وحدي.
    كان الطريق ترابيًّا ضيّقًا تتدلّى على جانبيه الأشجار الكثيفة كأنها تحاول حجب السماء.
    كانت الرياح تهبّ محمّلةً برائحة الأرض والرطوبة والعشب الرطب، وكلّ شيءٍ من حولي يوحي بأن المكان لا ينتمي تمامًا إلى عالمنا.

    وصلتُ إلى فسحةٍ صغيرةٍ في قلب الظلام تتوسطها بئرٌ حجريةٌ قديمة، جدرانها متهاوية كأنها تنزف من عصورٍ مضت.
    تقدّمتُ ببطءٍ وبدأتُ بالآيات، وفجأةً انبعث من العدم صوتُ عزفٍ حزين، لحنٌ غامضٌ يخترق القلب كأنه نواحُ روحٍ ضائعة.
    ثم اشتعلت النار قرب البئر من غير سبب، نارٌ زرقاء هادئة لا تصدر دخانًا ولا حرارة، وفوقها بدأ يتشكّل طيفٌ أبيضُ دخانيّ الملمس، راح يتجمّع شيئًا فشيئًا حتى اتخذ هيئة شابٍّ بشريٍّ ملامحه غائمة لا تُرى بوضوح، لكنّ عينيه تشعّان بضوءٍ غريب.

    لم أتردّد لحظة، أسرعتُ نحوه أقرأ الرقية بصوتٍ عالٍ، ثابت النظر عليه حتى لا يختفي، مصمّمًا على إمّا إمساكه أو طرده إلى الأبد.
    اقتربتُ منه أكثر، فوجدته يتلوّى في موضعه كخيوط دخانٍ حائرة تحاول التلاشي.
    لم يكن هربُه كغيره من الجنّ، فلم يُبدِ مقاومةً عنيفةً، ولم يظهر عليه استعلاءٌ أو تهديد، بل كان يتلوّى وكأن شيئًا في داخله يمزّقه — شيءٌ أضعف من الألم، بل أقرب إلى الندم.

    رغم ذلك، طبّقتُ عليه الطرائق الخاصة التي أتحفّظ على بيان تفاصيلها، طرائقَ تعلّمتُها عبر السنين لتحبس الجنّ وتقيّد حركته.
    شدّدتُ العقد الروحية حوله، وألقيتُ عليه قطعةَ قماشٍ خاصّةً لديّ — قماشٍ أزرقَ مطبوعٍ عليه آياتٌ ورموزٌ تحفظها عيون الصالحين، له قوّة روحانية في أسر الجنّ وإخضاعهم.

    لم يُفاجئني أنه لم يُقاوم كثيرًا، لكن ما فاجأني حقًّا كان ملامحه حين التفت إليّ؛ لم أرَ فيه نظرةَ تحدٍّ أو خبث، بل رأيتُ حزنًا عميقًا وانكسارًا لا يُخفى

    التي تخيلتها عندما وقفت أمام الزعيم وافتتحته بالأمر، تغيّر وجهه فجأة؛ كانت صاعقة. الغضب أصابَه، احمرت عيناه وارتجف صوته وهو يثور من مقعده دون مقدمات، قائلاً بنبرة حادة كالصوت الحديد على الصخور: «نحن لا نعطي نساءنا للغرباء — انسَ هذا الأمر فورًا.» ساد الصمت من حولنا، وتوقّف العزف والضحك، وعينان الجنّ تتابعان الموقف بفضول وحذر. كان الزعيم يتنفس ببطء، بينما الشراب يقطر من لحيته الكثيفة ورائحته القوية تملأ المكان.

    لم أُبدِ رد فعلٍ غضبٍ، بل تمسكت بهدوئي وتقدمت خطوة إلى الأمام، وقلتُ له بصوتٍ ثابتٍ أحاول أن أُظهِر فيه قوَّةً لا ضعفًا: «أعرض عليك كل ما تريد من جواهر وكنوز ثمينة.» تغير صوته قليلاً، وسكت لحظة، ولامع بريق الطمع في عينيه الحمرَوين. ثم رفع رأسه وأكمل بصوت أثقل من الشراب الذي يحدثه: «خذ من تشاء — غير روقاء، فهي أبرع الراقصات هنا، والجن والإنس يأتون من كل مكان لأجلها.» وقعت كلماته عليَّ كحجرٍ فقير، لكني لم أتراجع؛ رفعت رأسي بثقة وقلت بحزمٍ يسمعه الجميع: «أيها الزعيم، قد تَرانِي مجرد مسافر أو عازف بسيط، لكني من الجنّ المحاربين، من قبيلة عظيمة تعرفها الممالك كلها. مصاهرتي لك ستكون خيرًا لك من كل الزوّار الذين يأتونك طلبًا للهو. وإن كان طلبك ماديًا فلا مشكلة عندي — اطلب ما تشاء، أعود إلى قبيلتي وآتيك بما تريد من ذهب وجواهر.»

    سكتَ الزعيم، ثم رفع رأسه ببطء وهو ينظر إليّ بنظرة متفحصة طويلة، ثم شرب جرعة أخرى ومرَّر قطرةٍ من الشراب في الكأس ومَسح فمه بيده. بعد لحظة صمت مشهودة بالدهاء قال: «حسنًا، إذا كنت قادرًا على تحقيق الشروط فالأمر ممكن.» نظرت إليه بثبات وقلتُ: «أخبرني بها وأنا موافق عليها أياً كانت.» حينها أشار بيده نحو الجبل البعيد، حيث كانت القمم السوداء تلوح تحت ضوء القمر كأنها أسنان وحش فخم، وقال بصوت خافت لكنه جاد: «كما ترى، نحن لا نملك محاربين ولا فرسان؛ لكننا نعيش تحت حماية شياطين الجبل، وفي المقابل ندفع لهم الكثير. وإن لم نفعل فسينقضون علينا دون رحمة.» ثم رفع يده فجأة كمن ينطق بحكمٍ نهائي لا يقبل النقاش وقال: «احذر، لي رأس قائدهم، الشيطان الأسود مرقاطش. وسأزوجك من روقاء.»

    ترددت أصوات الهمس من حولنا؛ فاسم «مرقاطش» وحده كان يكفي ليزرع الخوف في القلوب. لكني لم أكن أخشى الشياطين ولا غيرهم؛ فقد اعتدت مواجهة الأخطار. نعم، في الأمر خطر عظيم، لكن كل خطرٍ يهون في سبيل إخماد نار العشق التي تحرق صدري. مددت يدي إلى سيفٍ وسحبتُه من غمده؛ صدر صوت الحديد كأنه نقش مكتوب في الهواء. قلت له بلهجة صارمة: «أمهلني أيامًا قليلة؛ إما أن أعود إليك برأس مرقاطش، أو لا أعود أبدًا.» عمّ السكون المكان؛ لم يبقَ سوى همهمة النار وارتعاش أنفاس الحاضرين. كانت القبيلة بأسرها تنتظر أن ترى أي مصيرٍ سيخرج من فم القدر بعد هذا العهد.

    انطلقت إلى خيمتي والليل يلف القبيلة بردائه الثقيل، المشاعل تُخفف ألسنتها شيئًا فشيئًا، والسماء تزداد سوادًا كأنها تخفي ما ينتظرني. دخلت الخيمة بخطوات ثابتة وفي قلبي يقظة المحارب. ارتديت درعي قطعةً قطعة حتى غطت جسدي؛ بريق المعدن باهت تحت الضوء الخافت. ثم حملت قوسي وسهامي، أعدُّ كل شيء للانطلاق نحو الجبل. وما أن هممت بالخروج حتى فتحت ستارة الخيمة — روقاء دخلت بخطوات مترددة، وجهها شاحب، وعيناها دامعتان، ويداها ترتجفان وهما تشدان على طرف ثوبها. بدت في تلك اللحظة مختلفةً عن الراقصة المُشرقة التي اعتدتها في الساحة؛ كانت فتاةً حزينة يثقل قلبها الخوف.

    قالت بصوتٍ متكسر يختلط فيه الارتباك بالرجاء: «ماذا تفعل يا سراد؟ أرجوك تراجع. أنا لا أستحق أن تخاطر من أجلي. الزعيم خبيث؛ اختار لك شرطًا صعبًا ليعجزك فحسب.» كانت كلماتها كسهمٍ رقيقٍ في صدري، لكنها لم تُضعف عزيمتي. رفعت رأسي نحوها وأجبتها بنبرة واثقة: «لا تقلقي يا روقاء، إن كان مرقاطش شيطانًا فسأكون شيطانًا أقوى منه، وإن كان هو الجبل نفسه فسأهدمه. لا أنوي الموت لأجلك، بل أنوي الحياة معك إلى الأبد — وحياتنا معًا تستحق كل شيء مهما كانت الشروط صعبة.» ظلت تنظر إليّ مذهولةً، شفتيها ترتجفان كأنها تريد أن تقول شيئًا آخر، لكني كنت قد حسمت أمري. انطلقت من الخيمة متجاهلاً تحذيراتها. الليل يفتح لي دروبًا به نحو الجبل، وأمامي هدف واحد: أن أعود ومعي رأس الشيطان لأتزوج محبوبتي روقاء وأكسر كل قيود القدر التي حاولت التفريق بيننا.

    انطلقت في الطريق غارقًا في حسابات الحرب والتكتيك؛ لم أعد أفكر في مواجهة فردية مع مرقاطش فحسب، بل في كيفية إبعاد أتباعه عنه، لأنني أعلم أن الشياطين لا تقاتل بشرف ولا عدل. فكرت في كل الاحتمالات ورتبت خطواتي كقائدٍ يعد لعرضٍ حربي دقيق. عندما رأيت حرسهم من بعيد توقفت لالتقاط أنفاسي وتثبيت الخطة في ذهني. كان الحصن قائمًا على قمة الجبل، كحديقة سوداء من نباتات شوكية شاهقة، وصدرانه مبني من الفحم والعظام المتراكمة؛ مظهره يحمل رائحة الموت والرماد. أغلقت أنفاسي أمام منظره وبدأت أراقب من بعيد بعين الصقر: أحدد تحركات حراسه ومواعيد تبديل الدورية وكل تفصيلة صغيرة بدقّة تامة. ثم بدأت خطتي تثمر.

    استهدفت الحراس في الجانب البعيد بسهمٍ ناريّ فأشعلت فيهم ذعرًا مُضلِّلاً وأغرقتهم الفزع، وأجبرت كل مرةٍ ثلاثة أو أربعة منهم على التقدّم خلفي إلى سفح الجبل حيث كنت أكمن لهم. هناك، في الظلال وبين الصخور، كنت أرصد حركاتهم المندفعة وأقضي عليهم بسكينٍ متقدٍ كريح الصحراء القاطعة؛ استمررت على هذا المنوال ثلاثة أيام كاملة، أفرغ فيها كل ما لدي من صبرٍ وحنكة. حتى جاء اليوم الرابع، وكما توقعت، خرج كل محاربيهم لتمشيط الجبل من فوقه إلى سفحه باحثين عن أثر لي — وكان هذا ما رغبتُ به من البداية.

    كنت كاملاً، قريبًا من الحصن؛ أتنفس بصمتٍ وأراقب خروجهم، وأعلم أن الفرصة قد حانت لخوض قتالٍ فردي مع مرقاطش. ومع انصراف الجموع، بقي في الحصن حراس قليلون، فبدأت أزحف متسللاً بينهم، أقتلهم واحدًا تلو الآخر. اختالهم بصمتٍ مدفوعًا بسرعتي التي يعرف بها جنّ الرياح؛ أما هم فكانوا ثقيلين، بطيئي الحركة مقارنة بي. توقفت لحظة عند حافة الساحة الكبرى للحصن، أخذت نفسًا عميقًا ثم تسللت إلى داخلها بهدوء حتى بلغت قلبها. وهناك، في ساحة الحصن الضخم، رأيته جالسًا على عرش من جمر مشتعل؛ جسمه ضخم أسود كأنها قطعة من الليل تنفصل عن الظلام، وجهه مشوه تظهر تحته عظام بارزة، قرناه الطويلتان تشتعلان بلهب لا ينطفئ. نظر إليّ بنظرة قاسية وقال بصوت يخبره الرماد: «هذا أنت، أيها الدخيل؟ لم أظنّك تجرؤ على الوقوف أمامي بعد أن كنت تقتل حراسي غدرًا كالجبناء. لم أنتظر أكثر.» مددت يدي نحو السيف وسحبته من غمده؛ ارتطم الحديد بصمت الساحة كإعلان مكتوب: «واجهني إن كنت شجاعًا؛ فاليوم سيسقط رأسك المتعالي أرضًا.» وبدأت المعركة.

    اندفعت أهاجم وأراوغ ضرباتِ مطرقته الثقيلة التي كانت تسحق الصخر تحت وقعها؛ صوتها يدوّي في الساحة كطبل حرب يهز الآذان. مرقاطش لم يكن عملاقًا فحسب، بل كان صلبًا كالصخر؛ لا يكاد سيفي يترك عليه إلا جروحًا سطحية بسيطة تلتئم سريعًا. حرصت أن أبقي هجومي على بُعد قدر الإمكان؛ أتنقل من زاوية إلى أخرى، أغمر الجو بسهامٍ نارية تخترق الهواء وتلقي بخيوطها المضيئة. ثم أبادله هجومًا خاطفًا بالسيف وأتراجع قبل أن تهبط مطرقته التي تسحق الأرض والجدران ببطش يزلزل الحجر. كانت خطتي بسيطة وواضحة: أن أجهده قدر الإمكان قبل الاشتباك الأخير. لكنه كان خبيثًا؛ لم يغِب عنه فرق السرعة وتعدد أسلحتي طويلاً.

    هاج بصراخ هادر هز المكان، ثم تجمع حوله دخان أسود كثيف أعاد تشكيلَه إلى هيئة أسدٍ أسود ضخم؛ قرونه طويلة ووحشية، وعيونه كبرعم جمر متوهج. وفي تلك اللحظة أنا أيضًا تخلّيت عن القيد التقليدي للتحوّل؛ تحولت إلى أفعى بيضاء جسدها رشيق ينساب بين الصخور، قشورها تلمع تحت ضوء اللهب وتمنحني سرعةً لم أعرفها من قبل. صار المشهد مهيبًا ومرعبًا في آن: أسد أسود ضخم من ناحية، وأنا أفعى بيضاء من ناحية أخرى — فصار كل منا يوازي الآخر في الحجم والسرعة. تصارعت الأجساد، وصارت المواجهة ضربة مقابل ضربة: أنا ألدغ بلَسعاتٍ خاطفة وأطلق أنفاسًا من النار فتقابلها موجات من اللهب من جهته. أردُّ عليه برياحٍ عاتية تعرف بها قبيلتي فتتشتت لظى الجمر. استمر الصراع على هذا المنوال حتى كدنا نستنزف كليًا؛ خارت قوانا بين الجراح والإرهاق.

    في نهاية المطاف سقطنا كلانا أرضًا؛ كانت الجراح تغمر أجسادنا والألم يمزقنا، والنفس ثقيل كأنه يخرج من أعماق حجر مقصف. استيقظ عليَّ مرقاطش بمخالبه محاولًا تمزيقي بينما كنت ملتفًا حول جسده؛ لكن الصمود بدأ يَصِير مفعوله، ففشلت حركته وبدأت قوته تضعُف. بما تبقّى لي من قوة، شددت قبضتي على رقبته حتى شعرت بصوت خَفيف ككسر داخلي — وكسرتها. فعاد إلى هيئته الأولى وعدتُ أنا إلى طبيعتي. سقطت على ركبتي ببطء حتى وصلت إلى السيف، أمسكته بيد ترتعش لكنها ثابتة، ثم وجهت ضربة قاطعة إلى عنقه. أمسكتُ رأس مرقاطش بين يديَّ، ومع كل نفسٍ يخرج مني كان هناك همسٌ داخلي يردد: «هذا الثمن سعادتِي.» ثمنٌ دفعته بدمي وبكل جهد.

    لكن مهما كان الثمن عظيمًا أو مريرًا، فهو ضئيل جدًا أمام لحظةٍ واحدة مع روقاء. لم أمنح نفسي وقتًا للراحة؛ أخذت رأس مرقاطش وغادرت المكان متسللاً كما دخلته. ظللت أتحرك بين الظلال كظل لا يترك أثرًا؛ أفلت من بين أبراج الحصن ونعال الشياطين. وبعد أن ابتعدت مسافة آمنة سمعتُ صوت فوضى يأتي من الحصن: صرخات الشياطين وهرجهم. لابد أنهم وجدوا جسد زعيمهم؛ لم يحزنهم موته بقدر ما أشغلهم التنافس على ما كان لهم من ممتلكات ومكانة — هكذا هم الشياطين: لا وفاء لهم ولا عاطفة.

    ارتحت تلك الليلة في كهف صغير، أوقدت نارًا خفيفة أضمُّ بها جراحي وأعيد تنظيم قواتي. وفي الليلة التالية حملت رأسه في يدي وسبقت الريح نحو القبيلة؛ كانت الأشواق تحملني قبل قدميّ، وقلبي يسبق جسدي نحو الدار التي ينتظرني فيها مصيرٌ آخر. لكن عند وصولي، وبمجرد أن راوني، تبدلت وجوه الجمع وساد الصمت المرّ — سوادٌ يسجل على المكان. تقدمت بهم وثقل حتى وصلت إلى الزعيم؛ ما أن رآني أحمل رأس الشيطان وقف مكانه مرتبكًا عاجزًا عن النطق. كان الكلام قد انسحب من حنجرته.

    قطعت الصمت بصوت حاد لا يقبل التأويل: «لقد عدت وحققت شرطك — لماذا أنت مرتبك؟ أظننت أنني لن أعود.» جلس الزعيم في مكانه خافضًا رأسه إلى الأرض. وهمس أهل القبيلة من خلفي همساتٍ مخبَّأة بالريبة والفساد؛ أحسست بشيء غريب — ربما مؤامرة تُنسَج بخفِيَّة. رفعت الصوت بغضبٍ وأمرت مطالبًا: «هذا ما طلبت؛ أين روقاء؟ واحذر أيها الزعيم من التراجع عن الاتفاق، وإلا فسيكون رأسك هو التالي.»

    أجابني متوترًا بصوت مسموع لكنه مهسوس: «اهدأ أيها المحارب، أنا لم أتراجع، لكنك تأخرت — روقاء لم تعد هنا.»

    انطلقت تلك الليلة نحو بيت الساحر، يملؤني العزم ويقودني الغضب، ولم أكن حينها أعرف خبث السحرة ولا مكرهم، كنت فقط أسمع عنهم، عن تعاملهم مع الشياطين والعفاريت، وعن قدرتهم على تسخير قوى الظلام والسيطرة على البشر بسحرٍ لا يُرى. ظننت أن بيت الساحر سيكون قلعةً مظلمةً تحرسها الأرواح الشريرة، محاطة بتعاويذ نارية وحُرّاس من الجن. لكن عندما وصلت، فوجئت؛ كان البيت عادياً، بيتاً طينياً صغيراً يقف وحيداً على أطراف القرية، كأنه لا يخص عالم البشر ولا عالم الجن، بل مكان وُلد فيه الشر في الصمت، وانعزل عن بقية البيوت القليلة المحيطة به.

    تحيط به أشجار يابسة كأنها تشهد على خطاياه. اختبأت خلف ظل صخرة قريبة أراقب بعين الحذر، أستشعر كل همس في الهواء. كان سكون الليل ثقيلاً، كأن الأرض نفسها تحبس أنفاسها. ثم لمحتها… روقاء. ظهرت للحظة خاطفة خلف نافذة صغيرة، تمر كطيفٍ من النور داخل ظلمة المكان. شعرها الأصفر يلمع كخيوط الذهب، وملامحها كما عرفتها: حزينة، ساكنة، مستسلمة. في تلك اللحظة فقدت كل حذر، لم أعد أرى شيئاً سواها، لم أفكر في السحر ولا في الخطر.

    كل ما كان في داخلي نداء واحد: “أنقذها”. اندفعت نحو الباب بعزمٍ أعمى، لكن ما إن خطوت بضع خطوات حتى تجمّدت في مكاني، جمد جسدي فجأة، كانت آلاف الخيوط الخفية قد التفّت حولي، لم أستطع أن أتحرك ولا حتى أن أتنفس بحرية. كانت قوى رهيبة حارقة تشلّ أطرافي وتغرس الألم في أعماقي، وكأنها نار تسري في العصب والعظم. حاولت أن أقاوم، لكن الأرض سحبتني إليها فسقطت ملتويًا من الألم، أصرخ في صمتٍ لا يسمعه أحد.

    حينها انفتح باب البيت ببطء، وخرج منه رجل نحيل يرتدي عباءة سوداء بالية، كان واقفاً أمامي شامخاً كظلّ الموت نفسه، وفي عينيه لمعان غريب بين الخداع والجنون. ارتسمت على وجهه ابتسامة خبيثة، ابتسامة من يعرف تماماً أن الفخ قد أُغلق بإحكام. قال بصوتٍ هادئٍ مريب: “أهلاً بضيفنا الجريء، كنت أعلم أنك ستأتي.” ثم أشار الساحر بإصبعه الطويل العظمي إلى اثنين من الجن الواقفين خلفه، كانت ملامحهم كظلين دخانيين لا ملامح لهما سوى عينين تقدحان شراراً أحمر قاتماً، وقال ببرودٍ آمر: “خذوه إلى الداخل.”

    انقضا عليّ من الجانبين، قبضتهما من نارٍ باردة تشلّ العصب، فجرّاني كما يُجر جذع شجرةٍ يابسٍ سقط بعد عاصفة. كنت فاقداً لكل قوتي، لا أستطيع المقاومة، لا أستطيع سوى النظر إلى الأرض الترابية التي سُحلت عليها، تملؤها رموز غريبة محفورة كأنها تنبض تحت الضوء الخافت.

    دخلت البيت، كان الظلام فيه أثقل من ليل الجبل، والهواء مشبع برائحة أعشاب محترقة وبخورٍ مسموم. في إحدى الزوايا رأيتها — روقاء — كانت جالسة على الأرض، رأسها منحنٍ ودموعها تنساب على خديها بصمت، تحاول كبحها عبثاً. نظراتها إليّ كانت كسكينٍ يغوص في قلبي، مزيج من الخوف والرجاء والذنب.

    أما الساحر، فتقدّم بخطواتٍ بطيئةٍ واثقة، وجلس أمامي فوق جلد حيوان غريب مفروش على الأرض، مدّ يده نحو كأسٍ من شرابٍ غامق اللون، ارتشف منه رشفةً باردة، ثم قال بصوتٍ كأنه يخرج من بئرٍ عميق:
    “أيها الجنيّ الشجاع، تجرّأت على اقتحام أرضي. عادةً أتخلّص ممن يفعل ذلك إلى الأبد، لكنك مختلف. لذلك سأمنحك فرصة.”

    ثم ضحك ضحكةً مقززة ممتدة، كأنها صدى أرواحٍ تتألم، قبل أن يرفع يده في الهواء ويرسم بها دائرةً نارية، يتمتم بكلماتٍ لم أفهمها. فجأة شعرت بالخيوط التي كانت تقيدني تنحلّ، جسدي تحرر، لكنني بقيت عاجزاً وضعيفاً كأنني ظلّ بلا روح. نظر إليّ الساحر بعينين لامعتين من الخبث قائلاً:
    “لا تظن أنك فقدت قوتك، إنها ما تزال فيك لكنها مشلولة هنا، داخل هذا البيت. لا جنيّ يمتلك طاقةً عليّ. إن أردت استعادتها، فعليك الابتعاد… إن استطعت.”

    أدركت حينها أنني واقع في فخٍّ محكم لا مهرب منه. لم يكن أمامي خيار سوى الحيلة والكلام. نظرت إليه، ثم إلى روقاء التي كانت ترتجف في زاويتها، وقلت بصوتٍ متماسكٍ رغم مرارة العجز:
    “أيها الساحر، لم أقصد اقتحام أرضك، ولم آتِ لأذيّتك، جئت فقط لأخذ روقاء. كنا على وشك الزواج، دعني آخذها معي وسأعطيك ما تشاء من كنوز أو قوة أو خدمة.”

    ابتسم ابتسامةً باردة ثم ردّ بنبرةٍ حادّة كالسيف:
    “روقاء ليست لك، هي ملكي مثل كل الجن في قبيلتها، فهم في خدمتي منذ زمن. وأنا أعرفك يا سراد، أعرف من تكون ومن أي قبيلة أتيت

    بالاشمئزاز يسري في نفسي، لم أكن أحب هذه الأعمال الخسيسة، فقد كنتُ محارباً، لا شيطاناً يعبث بالبشر. رفعتُ نظري إليه وقلتُ بحدةٍ لم أستطع كتمانها:
    “ولماذا؟ ما ذنب تلك الفتاة؟”

    ارتسمت على وجهه ملامح الغضب، وقال بصوتٍ حاد كالصيّات:
    “هل هذا صعب عليك يا سراد؟ ألهذا الحدّ نسيتَ سبب وجودك هنا؟ ألا تستحقّ روقاء أن تفعل هذا لأجلها؟ كل ما أطلبه بسيط: أن تتلبّس الفتاة ليومٍ واحدٍ فقط، ثم تخرج منها وينتهي الأمر، هذا كل ما أريده منك!”

    سكتُّ لحظة، وداخلي يموج بين الغضب والشك. كنتُ أعلم أن هناك شيئاً خفياً خلف طلبه، لكن صورة روقاء وهي تبكي في الزاوية لم تفارق عيني. لم يكن لي خيارٌ آخر، فوافقتُ بصوتٍ خافتٍ يائس:
    “كما تريد… ليكن يوماً واحداً فقط.”

    ارتسمت ابتسامة الرضا على وجهه، كأنه أمسك بخيوط روحي، ثم اقترب مني وقال بصوتٍ خافتٍ كأنه يلقي تعويذة:
    “ستجد الفتاة عند البئر القديمة، هناك في مفترق الطرق. انتظرها الليلة، فهي تأتي كل مساء لتملأ جرتها من الماء.”

    تجمّدت في مكاني حين نطق بذلك… البئر القديمة! المكان نفسه الذي التقيتُ فيه روقاء أول مرة. شعرتُ كأن الدائرة تكتمل، وكأن القدر يسخر مني، يعيدني إلى نقطة البداية لكن بثوبٍ من الخداع والظلمة.

    خرجتُ من عنده وأنا أشعر أن الأرض تضيق بي، وقلبي يضرب كطبول الحرب القديمة. كانت الرياح باردة تلك الليلة، تحمل رائحة الغدر، وأنا في طريقي نحو البئر التي كانت يوماً باباً للحب، وها هي الآن تصبح باباً لامتحانٍ آخر لا أدري إن كان خلاصاً أم هلاكاً.

    بعد انتظارٍ لم يدم طويلاً، لكنه بدا في صدري دهراً ثقيلاً كأن الساعات تجمّدت، لمحتُ من بعيد فتاةً شابة تقترب من البئر. كانت تحمل جرةً صغيرة من الفخار، تمشي بخطواتٍ وادعة على ضوء القمر. وجهها الطفولي كان يشعّ ببراءةٍ ونقاءٍ لم أرَ مثلهما منذ زمن، كأنها صفحة من نورٍ نزلت من السماء إلى هذا الليل الغامض.

    وقفت عند البئر، ولم ترني بالطبع، كنتُ أتخفى في هيئة دخانٍ خافتٍ يراقبها بين الظلال والأشجار. انحنت الفتاة برشاقة لتملأ جرتها من الماء، حينها ترددت يدي وتنازعتني نفسي بين الأمر والطبيعة، بين الحب والواجب. لم أكن أريد أن أؤذي أحداً، لكنني أجبرت نفسي على المضي قدماً.

    أخرجتُ الناي من غمده وبدأت أعزف لحناً كئيباً حزيناً، لحناً يشبه أنين الرياح في الصحارى البعيدة. توقفت الفتاة فجأة، رفعت رأسها وجالت بعينيها حول المكان تبحث عن مصدر الصوت. رأيتها ترتجف بخوفٍ غامض، فتابعتُ خداعي. ضربتُ سيفي على حافة البئر فاهتز المكان بصدى معدنيٍ غريب أربكها أكثر، ثم أشعلت أمامها ناراً صغيرة انبعثت من العدم، تلتهب ببطءٍ كأنها حياة من جمرٍ حيّ.

    عندها صرخت الفتاة بأعلى صوتها وارتدت للخلف مرعوبة، وبتلك اللحظة تمت الفرصة. فتسللت نحوها كدخانٍ شفافٍ خفيفٍ يخترق الهواء، ودخلتُ إلى جسدها. ارتجف جسدها بشدة وسقطت مغشياً عليها على الأرض، ثم ما لبثت أن أفاقت بعد لحظات، عيناها زائغتان تتنفس بعشوائية، ثم هرعت تجري نحو بيتها، كان الهلع يطاردها من خلفها.

    تبعتها كما أمرني الساحر، متلبساً جسدها، أعيش بداخلها عالماً من الظلام لا يُطاق. أسمع أنفاسها، وأحس بخوفها يتسلل في روحي. وما إن وصلت إلى بيتها حتى سقطت أرضاً من جديد فاقدة الوعي، وكنت أنا أواصل السيطرة عليها كما أمرني الساحر حتى تنقضي الليلة.

    لكن المفاجأة جاءت كالصاعقة… فُتح الباب بعنف، ودخل رجلٌ مسنّ، وجهه غاضب، وعيناه تقدحان شراراً مخيفاً. كان والد الفتاة، لكن نظرته لم تكن نظرة أبٍ لابنته المريضة، بل نظرة من يعرف ما يحدث تماماً. نظر إليها، ثم رفع عينيه فجأة نحوي، نظر عبر الجسد الذي أختبئ فيه… نظر إليّ!

    تجمّد الدم في عروقي، كيف رآني؟ لم أرَ بشرياً من قبل يمتلك مثل هذه القدرة. عيناه اخترقتا اللحم والعظام حتى التقت بعيني في الداخل. شعرتُ كأنني مكشوفٌ تماماً أمامه. مدّ يده إلى عنق الفتاة ووضعها برفقٍ غريب، ثم بدأ ينطق بكلماتٍ قديمةٍ ثقيلةٍ كأنها نُحتت على لسان الزمن نفسه.

    وفجأة شعرتُ بأن الهواء يُسحب مني، اختنقت! كانت قبضته لا تمسك بعنق الفتاة، بل بعنقي أنا. كانت روحي تُسحب من جسدها شيئاً فشيئاً حتى انفصلت عنها وسقطت على الأرض أمامه، شبه شفافٍ، لاهثٍ، كأنني غريق خرج للتو من البحر.

    رفع الرجل رأسه نحوي وتقدّم بخطواتٍ بطيئة، صوته منخفض لكنه عميق كدويّ الرعد:
    “ظننتَ أنك تخدعني يا ابن الرياح؟ كم من أمثالك أرسلهم ذلك الساحر، وكم منهم عاد؟”

    تراجع الظل من حوله وبدأ وجهه يتبدّل شيئاً فشيئاً حتى أدركتُ الرعب الحقيقي… هذا الرجل لم يكن بشراً تماماً، بل شيئاً آخر، شيئاً أشدّ خطراً من الساحر نفسه، كان أكثر رعباً من عتاة الشياطين أنفسهم.

    واصل كلامه بصوتٍ ثابتٍ يملأ المكان تهديداً:
    “لقد كنتُ أبحث عنك، بعدما تجرّأت على مهاجمة معقل الشياطين في الجبل، وها أنت تأتي بكل هذه الجرأة لتهاجم ابنتي!”

    تبع ذلك صمتٌ ثقيل، كنت ألهث، أحاول النهوض أو الهرب أو المقاومة، لكن كل محاولة مني باءت بالفشل. بدا بيته كحصنٍ شديد التحصين، جدرانه مبطّنة بطاقةٍ رهيبة تخنق أي ملامسة. طاقة باردة لا تُرى لكنها تحرق الجن من داخلهم حين يقتربون.

    استسلمت وسقطت على الأرض، وكل ما تبقى في جسدي من قوة واهنة دفعني لأن أتمتم بكلماتٍ مكسورة:
    “أنا لا أعرفك… ولا نية لي في عداوتك… الساحر خدعني، صدقني…”

    ألقى عليّ نظرةً مليئة بالغيظ والازدراء، ثم قال بحدةٍ قاطعة:
    “أنتم الجنّ حمقى! دائماً ما يخدعكم ذلك الساحر الفاشل، لا قدرة له على استحضار جنٍّ أقوياء لخدمته أو لتسخير الشياطين.”

    كان صوته يسير كالشريط الحاد في أذني، وأضاف بعدها:
    “إذا أردت النجاة بحياتك، فعليك أن تنصاع لي. أنا الساحر شمعون، لا أحد آخر.”

    ارتعش فيّ شيء كالشعر، شعرتُ لأول مرة وكأن نهايتي تلوح قريبة، ولم أجد أمامي خياراً سوى الخضوع. أومأت برأسي موافقاً، غارقاً في مزيجٍ من الخوف والامتثال.

    تابع حديثه بنبرةٍ هادئة لكنها مهددة:
    “لن أدمّرك إن كنت مفيداً لي. ثم إن ذلك الساحر أرسلك إلى هنا ليتخلص منك. يعلم أنك إن بقيت فلن تنجو. لكنني أقدّر الشجعان والمخلصين.”

    ثم طلب ما طلبه… أن أقدّم له دليلاً يقود إلى معقل القبيلة التي تعمل مع الساحر. قال بصوتٍ يختلط به برود الردع:
    “سأحرق معقلهم الليلة، ثم أتخلص منه هو الآخر… نهائياً، هذه المرة إلى الأبد.”

    سكتّ لحظة، كنت مرتبكاً عاجزاً عن البوح. لم أستطع أن أكون سبباً في إبادة قبيلة روقاء، ولو هلكت معهم لفضلت ذلك. ومع ذلك أدركت أن عدم كشف الحقيقة سيجلب الهلاك لروقاء أيضاً، لأن هجومه على بيت الساحر سيرتد عليها ويدمرها معه.

    لذلك اتخذتُ قراراً لم يكن صحيحاً، لكنه كان الخيار الوحيد… أخبرته بكل شيء. أخبرت الساحر شمعون، وطلبت منه أن يضمن سلامة روقاء مقابل أن أدله على القبيلة.

    وعدني شمعون قائلاً مطمئناً:
    “لا تقلق، لن أتراجع عن كلامي. لا حاجة لي بقتلك أو بقتل روقاء، بل على العكس، أريدكما أن تكونا في خدمتي.”

    كنت غبياً… أو ربما مجرد عاشقٍ مرتجفٍ على معشوقته، فآمنت بكلامه بلا تردد. تلك الليلة أطلق شمعون جحافل الشياطين التي اجتاحت معاقلهم ودمرت قبيلة روقاء بكل ما فيها.

    ثم جاء الدور على بيت الساحر نفسه. لم يرسلني معهم، أبقاني مقيّداً محجوزاً، مقعداً على جمر الانتظار على أمل أن يعود ومعه روقاء كما وعدني. لكن عند بزوغ الصباح عاد شمعون وحده إلى البيت.

    لم أحتج أن أسأل… سقط العالم من حولي متوقعاً الأسوأ. اندفعت نحوه محاولاً الانتقام، وكان الغضب يتشكل في داخلي كقوةٍ متقلبة من الألم والمرارة. لكن محاولاتي باءت بالفشل، طرحني شمعون أرضاً كخرقةٍ بالية، ثم دفعني خارجاً قائلاً ببرود:
    “لن أقتلك، لأن لي مع قومك عهداً قديماً. لكن إن اقتربت من بيتي مجدداً، فلن تبصر ضوء الشمس ولا القمر مرةً أخرى.”

    ثم أطلق تعويذةً أغلقت محيط البيت ومنعتني من الاقتراب.

    انطلقتُ بأقصى سرعةٍ نحو بيت الساحر حيث كانت روقاء، أرمق المكان بعيوني المتلهفة لأعرف ما حدث، فلم أجد سوى رمادٍ متطايرٍ في الهواء. لكن رائحتها بقيت عالقةً هناك… رماد روقاء امتزج برماد البيت المحترق.

    ظللتُ شهوراً أذهب إلى ذلك الموضع وأنادي باسمها وأنوح بلا جدوى.

    وهذه حكايتي أيها الراقي…

    هنا أنزلتُ رأسي إلى الأرض من وقع قصته المريرة. كانت كلماته تنزف حزناً ومعاناة. لم أعلم من قبل أن للجن قلوباً تُحب، ولا أن عالمهم مليء بالألم مثل عالمنا.

    رفعتُ رأسي إليه متسائلاً:
    “لكن يا سراد، ألم تأخذ ثأرك؟ أعلم أن الجن لا يتركون الثأر مهما طال الزمن.”

    أجابني بهدوءٍ يملؤه الأسى:
    “نعم، أخذته… لكن لم أكن وحدي. رافين، ابنة شمعون، هي من ساعدتني. تخلصتُ منه بعد أن أحبّتني، ولطالما كانت تكره قمعه لها. لقد عوّضتني قليلاً عن فقد روقاء، لكنها أيضاً لم تُكتب لي. ربما قدري أن أعيش وحيداً.”

    قلت له:
    “ولهذا بقيتَ قرب تلك البئر لسنين طويلة؟ بسبب تذكرك لروقاء؟”

    تنهد قائلاً:
    “ليس لذلك فحسب… تلك البئر شهدت حبي الأول — روقاء — وحبي الثاني — البشرية. لكنها أيضاً كانت نقطة توقف حياتي. بعدها لم يعد لي هدف أمضي إليه، لذلك قررت البقاء هنا، أحاول أن أصلح ما أفسد، وأفسد ما أستطيع من أعمال السحرة.

    أما سبب كثرة الأسحار هنا أيها الراقي، فبسبب أعمالهم… لطالما كان أهل هذه القرية يمارسون السحر منذ قرون. حتى الرجال الذين جلبوك لأجلي لم يكونوا إلا سحرة أرادوا التخلص مني فحسب.”

    سكت قليلاً، ثم تابع بصوتٍ خافتٍ يحمل حكمة:
    “نعم، هناك أشرار من الجن، لكنهم ما كانوا ليتسلطوا على البشر لولا سحرة الإنس. والأسوأ من السحرة… هم الناس الذين يقصدونهم طالبين الشر والأذى لغيرهم.”

    كانت كلمات الجني سراد واقعيةً وعميقة، تحمل صدقاً مؤلماً. كنت أود أن أسأله أكثر، لكن الفجر قد حلّ بالفعل، ووقت الصلاة قد حان

    مقالات ذات صلة

    تعليق واحد

    اترك تعليقاً

    لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

    تحقق أيضا
    إغلاق
    زر الذهاب إلى الأعلى
    ممنوع نسخ النصوص!
    arArabic

    أنت تستخدم إضافة Adblock

    الرجاء اغلاق حاجب الاعلانات