

بقلم:سالم ابراهيم
كثيرًا ما نسمع عن قصص رعب حقيقية يرويها الناس عن بيوت مسكونة أو أشخاص صادفوا مخلوقات من عالم آخر كمثال قصتنا الحالية المستأجر الغامض الذي زوجني ابنته ، التي ندعوك لقرائتها . في العادة نستمع لتلك الحكايات على سبيل الفضول أو التسلية، ثم نمضي وكأن شيئًا لم يكن. لكن أن تجد نفسك فجأة جزءًا من تلك القصص، وتعيش تفاصيلها بكل ما تحمله من غموض ورعب، فذلك أمر لم أكن أتخيل يومًا أن يحدث لي. قصتي ليست من نسج الخيال، بل هي تجربة أثقلت أيامي ولياليّ وغيرت حياتي إلى الأبد.
طوال ثلاثين عامًا من عمري كنت أعتقد أنني أتحكم بمجرى حياتي بدقة متناهية، أخطط لكل خطوة وأحسب كل احتمال، ولم يخطر ببالي يومًا أن ثمة عالَمًا آخر سينسج مصيري بالطريقة التي فعلها. عالم لا يُرى بالعين المجردة لكنه حاضر في تفاصيل لا يفهمها العقل. اسمي بدر، رجل عادي تمامًا، وربما لا يختلف مساري عن أي شخص يلتفت إلى مستقبله ويبحث عن بيت يحميه من تقلبات الزمن. كنت حالمًا منذ سنوات بامتلاك منزل يصبح مأوى لي واستثمارًا مضمونًا في آن واحد، وقد تحقق الحلم عندما عثرت على بيت واسع من طابقين يقع على أطراف المدينة، تحيط به الأشجار والهدوء، وكان سعره مغريًا إلى حد يصعب مقاومته. رأيت فيه ضالتي، فاشتريته بسرعة وبدأت بترميمه وإعادة الحياة لجدرانه القديمة.
كان البيت في النهار مضيافًا، تملؤه أشعة الشمس المائلة على الحديقة، وتحييه أصوات السيارات المارة من الطريق القريب. لكن مع حلول الليل ينقلب المشهد إلى صمت مطبق لا يقطعه سوى أنفاس الريح أو خرير المطر. ذلك الصمت كان في البداية يمنحني راحة عجيبة، راحة حملت شيئًا خفيًا من الرهبة. وما هي إلا أسابيع قليلة حتى بدأت أبحث عن مستأجر للطابق العلوي، رغبة في أن أجعل البيت مصدر دخل يساندني. وضعت إعلانات وانتظرت، لكن عروض المستأجرين لم تكن تفي بطموحي. ومع مرور الأيام بدأت أشعر بخيبة أمل، حتى جاء ذلك الليل الذي لم يغيّر فقط معالم البيت، بل بدّل حياتي كلها.
كانت ليلة ممطرة ثقيلة، تجاوز الوقت منتصف الليل وأنا أتهيأ للنوم حين دوى صوت طرق مفاجئ على الباب. تجمدت للحظة وأنا أتساءل من يطرق في هذا الجو العاصف وهذه الساعة؟ ارتديت معطفي وتوجهت لأفتح، وهناك كانت الصدمة. أمام العتبة وقفت عائلة كاملة مؤلفة من رجل وقور يتسم بالهيبة، إلى جانبه زوجته ترتدي عباءة بيضاء ناصعة، وخلفهما ابنتان فائقتا الجمال ووجههما يفيض برقة غريبة، وإلى جانبهما شاب ضخم البنية تقطر منه الجدية والصرامة. لم أستطع حتى النطق، لكن الرجل تقدم بخطوة وقال بصوت ثابت لا يخلو من وقار: “جئنا لنستأجر البيت.”
كانت كلماته كالماء البارد على عطش أيامي، فالحلم الذي كنت أنتظره تحقق فجأة ومن تلقاء نفسه. رحبت بهم ودعوتهم إلى الداخل، وما هي إلا دقائق حتى اتفقنا، ليصبحوا سكان الطابق العلوي. في البداية لم يكن هناك ما يثير الشك. كانوا هادئين للغاية، لا يصدر منهم أي إزعاج، وكأن وجودهم أضفى نوعًا من السكينة على المكان. لكن مع مرور الأيام بدأت ألاحظ تفاصيل لم أُعرها في البداية أي اهتمام. لم أرهم يغادرون البيت سوى في أوقات عجيبة: قُبيل الفجر أو بعد منتصف الليل. كانوا لطفاء معي لكن غامضين، يجيبون عن أسئلتي باقتضاب ثم يحرفون الحديث إلى موضوع آخر.
وذات ليلة، بينما كنت عائدًا متأخرًا، رأيت من بعيد وميضًا غريبًا يتسرب من نوافذ الطابق العلوي. لم يكن ضوءًا عاديًا، بل أشبه بعشرات الشموع تشتعل وتنطفئ في إيقاع غامض. تجمدت في مكاني وسرت في جسدي قشعريرة باردة. حاولت إقناع نفسي أنها مجرد خيالات انعكست من مكان ما، لكن الطريق كان خاليًا والليل صافيًا من أي أضواء. منذ تلك الليلة بدأت سلسلة من الأحداث المريبة: أصوات تناديني باسمي وأنا وحدي في البيت، خطوات في الطابق العلوي رغم أنني رأيتهم يغادرون، همسات تخترق الأبواب المغلقة. كنت أحاول أقنع نفسي بأنها أوهام أو وساوس، لكن علامات أخرى أكدت لي أن الأمر يتجاوز التوهم.
في إحدى المرات، رأيت من نافذتي إحدى ابنتيهم تحدق بي من وسط الحديقة. كانت واقفة وسط الظلام كأنها جزء منه، وعيونها تشع بضوء غريب غير بشري. اختفت في ومضة وكأنها لم تكن موجودة أصلًا. وعندما غلبني النوم بدأت كوابيس مروعة تطاردني، كوابيس أرى فيها البيت يشتعل بنيران سوداء وهم يقفون وسطها مبتسمين، ثم أصحو لأجد على جدران البيت نقوشًا مبهمة غريبة. ازدادت حيرتي ورعبي كل يوم، حتى لم يعد قلبي يحتمل.
حاولت أن أواجه الرجل بسؤالي عمن هم في الحقيقة، لكنه اكتفى بابتسامة غامضة وقال جملة أربكتني: “البيت وجدنا فيه ما نبحث عنه، وأنت أيضًا ستجد ما تبحث عنه.” حين صافحني غمرني برد شديد كأنني لامست ثلجًا يغوص في دمي. أردت أن أطلب منهم الرحيل، لكن لساني كان ينعقد في كل مرة، كأن قوة خفية تمسك بي وتمنعني من لفظ ما أريد. وكلما مضت الأيام اتضح لي أنهم ليسوا مجرد مستأجرين، بل كيان آخر… عائلة من الجن اتخذت بيتي موطنًا لها.
وفي الليلة الأخيرة، وصلت القصة إلى خاتمتها المفجعة. سمعت ضجيجًا غريبًا في الطابق العلوي، صعدت بخطوات مرتعشة حتى وصلت إلى الباب. خلفه كانت تصدح أصوات أهازيج وتراتيل ليست بشرية. دفعت الباب ورأيتهم مجتمعين في دائرة غريبة، أجسادهم يشع منها ضوء أزرق باهت، وأعينهم تتوهج كالجمر. كانوا يرددون كلمات بلغة لم أسمعها قط. ما إن شعروا بوجودي حتى التفتوا جميعًا نحوي دفعة واحدة، وفي لحظة شعرت أن دمي تجمد. تقدم الرجل مني ووضع يده على كتفي وهمس بصوت عميق: “الآن أصبحت واحدًا منا.”
منذ تلك الليلة لم أعد كما كنت. البيت بقي على حاله، لكنني لم أعد وحدي فيه. أصواتهم تملأ أرجاء المكان، ظلالهم تلاحقني، ووجوههم تزورني كلما أغمضت عيني. أنا اليوم لا أعلم إن كنت أسكن هذا البيت، أم أن البيت هو من يسكنني




إرحل من البيت المسكون بسلام