الحيوانات في الحضارة

القط الفرعوني

تخيّل أنك عدت بالزمن آلاف السنين إلى الوراء، إلى مصر الفرعونية، حيث المعابد الضخمة تلمع تحت شمس النيل، والناس يحنّطون أجساد الموتى ليخلّدوا أرواحهم. وسط هذا المشهد المهيب، ستجد مخلوقًا صغيرًا يجلس بهدوء على عرش خاص به: القطة.

لم تكن مجرد حيوان أليف كما نعرفها اليوم، بل كانت رمزًا للقوة، ووسيطًا بين البشر والآلهة، وحامية البيوت والقصور. والسؤال هنا: كيف تحوّلت القطة من كائن يطارد الفئران إلى إلهة تُعبد ويُشاد لها المعابد؟


البدايات: حين دخلت القطط حياة الإنسان

تشير الدراسات الحديثة في علم الحمض النووي إلى أن القطط استأنست لأول مرة منذ حوالي 10,000 سنة في منطقة الهلال الخصيب، أي في نفس البقعة التي شهدت ولادة الزراعة.

ومع تخزين الحبوب، ظهرت القوارض، ومع القوارض جاءت القطط لتصبح حليفًا طبيعيًا للإنسان. لكن في مصر القديمة، لم يكن الأمر مجرد تعاون نافع؛ بل تحوّل إلى شراكة روحية وثقافية.

المصريون رأوا في القطة أكثر من مجرد صيّاد للفئران. كانوا يرون فيها تجسيدًا للنعمة والاتزان، رمزًا للأمومة والحماية، بل وأداة لمحاربة قوى الظلام.


القطة: أكثر من حيوان… شبه إله

بسبب قدرتها على قتل الثعابين السامة مثل الكوبرا، ارتبطت القطة بفكرة الحماية من الشرور. ومع مرور الزمن، ارتقت مكانتها لتصبح جزءًا من العقيدة الدينية.

القطة المستأنسة لم تعد مجرد رفيق منزلي، بل جسرًا بين الإنسان والآلهة. ومن هنا بدأت ألوهيتها تمثل الحماية، الخصوبة، والأمومة.

حتى أن المصريين منحوا بعض القطط شرف التحنيط، تمامًا مثل البشر. تخيّل أن قطتك المنزلية تُحنّط وتدفن باحتفال مهيب، لأن روحها مرتبطة بالآلهة!


اكتشاف مذهل: 80 ألف قطة محنطة!

في عام 1888، وبينما كان فلاح مصري يحفر قرب بلدة بني حسن، صادف قبرًا هائلًا يضم نحو 80 ألف قطة محنطة.

مشهد لا يُصدق: آلاف القطط ملفوفة بالكتان، مدفونة بعناية، وكأنها جيش أبدي يحرس عالم الموتى.

هذه الواقعة لم تكن مجرد دليل أثري، بل رسالة واضحة على أن مكانة القطط لم تكن عابرة أو ثانوية؛ بل كانت جزءًا أصيلًا من الديانة والمجتمع المصري.


أول إلهة برأس قط: مافدت

كانت مافدت أول آلهة معروفة برأس قط في مصر القديمة، وقد ظهرت خلال فترة حكم الأسرة الأولى (2920–2770 ق.م).

  • كانت حامية غرف الفرعون من الثعابين والعقارب.
  • غالبًا ما صُوِّرت برأس نمرٍ (بانثيرا باردوس).
  • لعبت دورًا بارزًا في عهد الفرعون دن.

يمكننا القول إن مافدت كانت البداية الرسمية لارتباط القطط بالقوة والحماية في الوعي الديني المصري.


باستيت: الإلهة التي غيّرت وجه القطط

من الأسرة الثانية (2890 ق.م فصاعدًا)، ظهرت باستيت، الإلهة الأكثر شهرة في تاريخ القطط المصرية.

  • في بدايتها، كانت تُصوّر برأس أسد (رمز القوة والشراسة).
  • مع مرور الوقت، تحوّلت صورتها إلى رأس قطة مستأنسة صغيرة، ترمز إلى الحنان والحماية.

في معابد خفرع و ني أوسر رع وُجدت أختام وأوانٍ حجرية تحمل اسمها، دليلًا على قدسيتها منذ الأسرة الرابعة والخامسة.

وهكذا تحوّلت باستيت إلى رمز يجمع بين الأنوثة، الأمومة، والحماية المنزلية.


القطط في البيوت الفرعونية

رسوم مقابر الأسرة الخامسة في سقارة (حوالي القرن 26 ق.م) تُظهر قطة صغيرة ترتدي طوقًا فاخرًا.

هذا المشهد يوحي بأن القطط لم تكن مجرد ضيوف عابرة في القصور، بل سكان دائمون يعاملون باحترام خاص.

ولم تقتصر مكانتها على القصور؛ فقد دخلت القطط حتى في التمائم التي كان يرتديها المصريون للوقاية من الشر.


القطط في المشاهد اليومية

عبر الرسوم الجدارية في مقابر طيبة (القرن 15-14 ق.م)، نجد صورًا آسرة:

  • قطة تجلس أسفل كرسي سيدها في مأدبة وتأكل من بقايا اللحم والسمك.
  • قطة ترافق الإوز والقرود كأنها جزء من العائلة.
  • قطط تصطاد الفئران في مشاهد صيد متكررة.

هذه اللوحات لا تُظهر فقط قدسية القطط، بل تكشف عن اندماجها الكامل في الحياة الاجتماعية، وكأنها فرد من العائلة المصرية القديمة.


التحنيط: سرّ الخلود للقطط

أول دليل على تحنيط القطط ظهر عام 1350 ق.م، في ناووس حجري دقيق الصنع، يُعتقد أنه احتوى على قطة مدللة للأمير تحتمس.

ومع مرور القرون، أصبح تحنيط القطط ممارسة واسعة:

  • كانت تُحنّط بعناية.
  • تُلفّ بالأقمشة الفاخرة.
  • تُدفن في مقابر خاصة بها.

لم تكن هذه مجرد طقوس دينية، بل انعكاس لفكرة أن القطط تجسيد حي للإلهة باستيت.


تل بسطة: مدينة القطط المقدسة

في الأسرة الثانية والعشرين (حوالي 9 ق.م)، ازدادت شعبية باستيت، وازدهر معبدها في مدينة تل بسطة.

  • تحوّلت باستيت نهائيًا إلى صورة قطة صغيرة.
  • أصبحت القطط المستأنسة تُعبد علنًا.
  • معابدها امتلأت بالتماثيل الصغيرة من البرونز والمرمر والخزف.

في تلك الحقبة، كان موت قطة حدثًا جللًا. لم يكن يُسمح بقتلها، حتى عرضًا، ومن يفعل كان يُعاقب بقسوة.


القطط بين باستيت وسخمت

من المثير أن المصريين فرّقوا بين صورتين متناقضتين:

  • باستيت: القطة المستأنسة، الحنونة، حامية البيت.
  • سخمت: اللبؤة الشرسة، حامية الفرعون، سيدة الحرب.

بهذا المزج بين اللطف والقوة، أصبحت القطط تعبيرًا عن فلسفة المصري القديم: الحياة ليست فقط حنانًا، ولا شراسةً مطلقة، بل توازن بين الاثنين.


ماذا تخبرنا كل هذه الرموز اليوم؟

القطة في مصر القديمة لم تكن مجرد رمز ديني، بل درس فلسفي.

المصريون فهموا أن الكائن الصغير قد يكون حارسًا عظيمًا، وأن اللطف يمكن أن يكون درعًا أقوى من السيوف.

حتى اليوم، حين ننظر إلى القطط في منازلنا، نجد ذلك المزيج الغامض: كائن ودود حينًا، ومستقل متكبّر حينًا آخر. وكأنها ما زالت تحمل بقايا قدسيتها القديمة.


القطة… بين الماضي والحاضر

حين تقرأ تاريخ القطط في مصر القديمة، تدرك أن هذا الحيوان لم يكن مجرد مخلوق جميل، بل كان مرآة للإنسان نفسه: قوته وضعفه، حنانه وغضبه، خوفه ورجاءه.

ولعل السؤال الأهم الذي يتركه لنا هذا التاريخ هو: هل نحن الذين قدّسنا القطط، أم أن القطط من البداية كانت تعرف كيف تجعلنا نقدّسها؟


اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

You cannot copy content of this page

arArabic

أنت تستخدم إضافة Adblock

الرجاء اغلاق حاجب الاعلانات