عالم الجن عالم غريب وعجيب، ليس كله مخيف كما نعرفه في القصص الشائعة، بل تحدث فيه أحيانًا أحداث طريفة ومثيرة للدهشة. وقصتنا اليوم مثال على ذلك، وهي على لسان أستاذ يحلف بالله أن كل كلمة فيها صحيحة مائة بالمائة.
يقول الأستاذ: في البداية لم أكن أصدق، لكن بعدما سمعت القصة وعشت تفاصيلها، أيقنت بما حدث.
القصة بدأت عام 2014 حين تم تعييني أستاذًا لمادة التربية الإسلامية في إحدى القرى الجنوبية النائية. في البداية كان الأمر صعبًا عليّ، فقد كنت الابن الوحيد لوالدتي بعد وفاة والدي منذ سنوات، وهي التي ربتني حتى وصلت لما أنا عليه. ورغم ترددي، أصرّت عليّ أمي أن أذهب، مؤكدة أن رزقي بانتظاري، وداعية لي بالتوفيق. وبعد تفكير طويل، توكلت على الله وسافرت إلى القرية.
كانت القرية بعيدة وطريقها وعرة، لكنني أحببت أهلها بسرعة، فقد كانوا طيبين ولم يجعلوني أشعر بالغربة. مضت الشهور، وتعرفت على الجميع، وصرت مألوفًا لديهم. كنت أدرّس الدين، ومع غياب إمام المسجد أحيانًا، كان أهل القرية يطلبون مني أن أؤمّهم في الصلاة احترامًا لعلمي، رغم وجود إمام كبير السن كان يوصيني بذلك عند غيابه.
مرت الأيام حتى جاء يوم تغيّر فيه كل شيء. كنت في زيارة لمدينة قريبة، وتأخرت حتى الليل. وبينما أعود بسيارتي في الطريق الخالي، رأيت رجلًا مسنًا يحمل حملًا ثقيلًا على ظهره. أصررت أن أوصله رغم رفضه، حتى وافق. لكن قبل أن أصل لبيته طلب أن أنزله في مكان قريب، وشكرني ثم رحل. ملامحه بقيت عالقة في ذهني: لحيته خفيفة في أسفل ذقنه فقط، ووجهه شبه خالٍ من الشعر.
بعد يومين، رأيته مجددًا في القرية، وكان يشكرني أمام الناس رغم أنني لم أكن أعرفه. سلّمت عليه باحترام، فطلب مني أن أزوره في قريته التي تبعد حوالي ثلاثين كيلومترًا، قائلاً إن لديه أمرًا مهمًا.
بعد صلاة العصر ذهبنا بسيارتينا حتى وصلنا إلى منزله، وكان بيتًا بسيطًا على الطراز الريفي. قدّم لي القهوة، ثم بدأ يروي قصته: لديه ابنة كانت تحب الذهاب إلى الجبال رغم تحذيراتهم. ومع مرور الوقت، بدأت تتصرف بغرابة، لا تتحدث ولا تستجيب، حتى فقدت السمع والنطق فجأة. عرضوها على الأطباء دون جدوى، فطلب مني أن أقرأ عليها القرآن رغم أنني لست راقيًا شرعيًا، بل مجرد أستاذ في الدين.
وافقت بدافع التجربة، وجاءت الفتاة محتشمة ومغطاة بالكامل. قرأت عليها آية الكرسي والمعوذات عدة مرات، لكنها لم تتفاعل إطلاقًا، فأخبرته أنني لا أرى أثرًا واضحًا للمسّ. شكرني واعتذر عن إزعاجي.
وأنا في طريقي للعودة، رأيت كلبًا أسود ضخم الحجم بشكل غير طبيعي يقف بين بستان وأرض خالية. لم أرَ في حياتي كلبًا بهذا الحجم توقفت بسيارتي مذهولًا من حجم الكلب، لكن ما جعل قلبي يخفق بشدة هو أنه كان يحدق في وجهي مباشرة دون أن يتحرك. فجأة، استدار واختفى بين الأشجار بسرعة غير طبيعية، وكأن الأرض ابتلعته. أحسست بقشعريرة تسري في جسدي، فاستعذت بالله وأكملت طريقي إلى القرية.
في اليوم التالي، جاءني الرجل نفسه ومعه ابنته، لكن هذه المرة كانت الفتاة مختلفة. وجهها أكثر هدوءًا، وعيناها فيهما نظرة غريبة تجمع بين الحزن والرجاء. جلست وبدأت أقرأ عليها من جديد، لكن فجأة، ووسط القراءة، تغير صوتها وخرج منه صوت رجولي أجش يقول:
“كفى… لقد آذيتني بما قرأت… سأخرج لكن ليس الآن.”
تجمد الدم في عروقي، لكنني تماسكت وأكملت القراءة حتى بدأ جسدها يرتجف ثم سكنت تمامًا. فتحت عينيها ونظرت حولها وكأنها تستيقظ من حلم طويل، ثم انفجرت بالبكاء ووقعت في حضن والدها.
بكى الرجل شاكرًا الله ثم التفت إليّ وهو يقول:
“كنت أعلم أنك السبب في شفاء ابنتي، لكن لم أكن أتخيل أن الأمر سيتم بهذه السرعة.”
سألته عن الكلب الذي رأيته في الليلة السابقة، فابتسم ابتسامة غامضة وقال:
“ذلك لم يكن كلبًا… لقد كان هو.”
أدركت حينها أنني لم أتعامل مع مريض عادي، بل مع حالة مسّ حقيقية، وأن الكلب الأسود لم يكن سوى تجسيد للجن الذي كان يؤذيها.
ومن يومها، صرت أؤمن أن عالم الجن ليس كله شر، لكن مواجهته تحتاج إيمانًا ثابتًا وقلبًا لا يعرف الخوف إلا من الله