تجارب مرعبة

اعترافات ساحرة

بقلم: انيس احمد

كان جدّي إسماعيل عطارًا وتاجرًا كبيرًا في البلدة، وكان ميسور الحال.
تزوّج ثلاث نساء وأنجب أربعة أبناء: ثلاثة ذكور وبنت.
أبي سالم وعمّي فارس كانا من زوجة واحدة، أمّا عمّي باهر الأكبر وعمّتي صفاء فكانا من زوجة أخرى.
أمّا زوجته الثالثة، فكانت لا تُنجب، أو بالأحرى كان كلّ أطفالها يتوفّون صغارًا، حتى لُقِّبت بـ أمّ الأموات، وهي جدّتي زهراء.

كنّا نعيش في بيت واحد مع جدّتي جميلة وعمّي فارس، وكان هذا البيت ميراثًا لأبي وعمّي.
كانت جدّتي تقيم وحدها في الطابق الأرضي، وأبي في الطابق الأول، وعمّي في الطابق الأعلى.
وبعد وفاة جدّتي، أصبح الطابق الأرضي مشتركًا بين أبي وعمّي، ومفتوحًا دائمًا لاستقبال الضيوف.

أمّا عمّي باهر وعمّتي صفاء وأمّهم، فكانوا يعيشون في بيت آخر عند مدخل البلدة.
وكانت جدّتي زهراء –التي لا تُنجب– تقيم وحدها في منزل من طابق واحد قريب منّا.
وجدّي إسماعيل –رحمه الله– هو الذي قسّم هذه البيوت بنفسه في حياته.

وبعد وفاته، أخذ أبي وعمّي فارس قطعة أرض ليزرعاها ويعيشان من خيرها، بينما أخذ عمّي باهر وعمّتي صفاء دكّان العطارة والمخزن.
أمّا جدّتي زهراء فلم تأخذ شيئًا، فاتُّفق بين بيتنا وبيت عمّي باهر أن يُدفَع لها مبلغ ثابت من البيتين لتعيش منه.

كانت أمّي ليلى لا تتركها محتاجة إلى شيء، وكانت تعاملها كما لو كانت أمّها، بل وأكثر، وكانت جدّتي زهراء تقضي معظم وقتها في بيتنا.
وعلى العكس، لم يكن عمّي ولا عمّتي يسألان عنها أو يزورانها.

نحن ثلاث بنات: أنا مريم، ثم ريم ولينا.
وكان أبي من الذين يعيشون على قدر رزقهم؛ من البيت إلى الأرض ومن الأرض إلى البيت.
واليوم الذي يأتي على قدر ما يذهب، والحمد لله.

ولذلك، حين أنهيتُ دبلوم الدراسة، بدأت أساعد أبي في الأرض، وكنت أحيانًا أجمع بعض أطفال القرية وأُدرّسهم مبادئ العربيّة والحساب.

كان لعمّي فارس ولدان توأم هما حسام وبسام، وزوجته سهى كانت طيّبة جدًا وقريبة منّي في السن، فصرنا كالصديقتين.
وكان لعمّي باهر ولد يُدعى رامي وبنت تُدعى سندس، أمّا عمّتي صفاء فرفضت الزواج منذ زمن طويل، ولم يعرف أحد سبب ذلك.

بدأت الحكاية كلّها يوم وفاة جدّتي جميلة.
لن أنسى ذلك اليوم ما حييت.

كان يومًا عاديًا. نادت جدّتي على أبي وهو ذاهب إلى الحقل، وكنت أسمع كل ما قيل.
قالت له:
“اسمع يا سالم، أنت تعرفني؛ لا ألفّ ولا أدور.
أختك صفاء وزوجة أخيك باهر جاءتا أمس، وهذا ليس من عادتهما… وفي النهاية طلبتا يد مريم لـ عادل ابن أخيك.
ولستُ صاحبة القرار، قلت لهما إنني رسول، وسأخبر سالمًا فهو صاحب الكلمة.
لكن نصيحة منّي يا ولدي: لا تفعل.
لن أطمئنّ على مريم في بيت أخيك.
رجلي في الدنيا ورجلي في الآخرة، ولن أعيش العمر كله.
لقد نصحتك لله، وأنت حرّ.”

لم يردّ أبي بكلمة، قبّل يدها وذهب.

ذهبتُ إلى أمّي وأخبرتها بما سمعت، فظهر الفرح على وجهها وقالت:
“يا سعدك يا مريم! عادل شاب جيد ويدير عمل أبيه كله، وسيكون سبب راحتك، وستعيشين حياة جميلة.”

فقلت لها:
“كلّ ما يهمّك أنه يحمل عمل أبيه وسيجعل حياتي جميلة؟”

فقالت:
“يا مريم، أنت ابنتي الكبيرة، وأنت ترين حال أبيك وحالنا. وعادل ابن عمّك، ولا بأس أن نفكّر في راحتك.”

كانت تقنعني رغم أنني لم أكن موافقة ولا رافضة.
لم يتقدّم لي أحد قبل ذلك لأعرف شعور القبول أو الرفض.
لكن كان ينتابني شعور غريب… لا أعلم إن كان بسبب فكرة الزواج والحياة الجديدة، أم شيئًا آخر.

قلت لها إن جدّتي رفضت ولم تقل السبب.
فانقلب وجه أمّي وشعرت أنها حزنت.
ثم نزلت إلى جدّتي لتسألها عن سبب رفضها، ونزلتُ وراءها.

وأثناء نزولنا على السلم، لمحتُ قطة سوداء تخرج من عند جدّتي، تمشي ببطء وبشكل غريب.
هشّتها أمّي بقدمها، لكن القطة لم تخَف، وظلّت تمشي مبتعدة ببطء.

دخلنا على جدّتي، فوجدناها ممدّدة على السرير، تنظر إلى السقف بنظرة غريبة، ووجهها أزرق كالحبر، ورائحة كريهة في الغرفة كأن شيئًا يحترق.

هرعت أمّي إليها تهزّها وتكلّمها، لكن بلا استجابة.
صرخت في وجهي تطلب مني أن أستدعي أحدًا ليذهب إلى أبي في الحقل ويخبره بأنّ أمّه تحتضر.

خرجت، فرأيت طفلًا من الجيران فأرسلته إلى أبي.
ثم عدت، لكنّي خفت من الدخول… لا أدري لماذا.

صوت أمّي العالي جعل زوجة عمّي سهى تنزل، فأخبرتها بما حصل، ودخلنا بعدها على جدّتي…
وفجأة بدأ يخرج من فمها شيء أبيض…
فصرخت أمّي وزوجة عمّي:
“جدّتُك ماتت!”

اجتمع الجيران، وجاء أبي وعمّي فارس، وأصرّا على أخذها إلى المستوصف.
وحين رأى الطبيب حالتها، قال إنها متوفاة منذ مدّة.

لكن… كان ذلك مجرد البداية.


اتحدث عم شلبي وقال:
“أنا لا أريد منه شيئًا، نصيبي ونصيب نعمة من بيت ثريا مهر هدى لابن خميس.”

وافق أبي بعد ضغط من أمي وعمتي، أما أنا فكان لدي فضول لدخول بيت نجاة، الذي لم أدخله منذ ولدت. طوال تلك الفترة كنت أفكر في كل ما حدث، وكل ما سمعته… كيف ولماذا.

وبعد شهرين، ومن دون فرح، تم الزواج ودخلت بيتنا لأول مرة في حياتي. كان بيت جدنا بالنسبة لنا جميعًا علامة استفهام كبيرة، شيء أشبه بالكهف أو المغارة التي لا يزورها أحد، أو يمكن القول إنها منطقة ممنوعة من الاقتراب، لأن أهل البيت لا يحبون أحدًا أن يدخل عندهم، على عكس أي بيت آخر في البلدة يكون مفتوحًا للجميع، القريب والغريب.

كان بيت جدنا مكونًا من ثلاث طوابق، إضافة إلى الطابق الأرضي الذي كان نصفه دكان عطارة والنصف الآخر مخزنًا، أما الطابق الأول فكان لعمتي ووالدتها نجاة، والثاني كان لعمّي، والطابق الثالث هو الذي سأقيم فيه بعد الزواج.

نظرًا لعدم وجود فرح بسبب الظروف، بعد كتابة العقد عدت إلى بيتي على الفور. وما إن دخلت البيت شعرت بشيء غريب عليّ، لم أستطع إلا أن أشبهه بالقبور… شعور مقبض جدًا ومرعب وأنا أصعد إلى الطابق الأول تحديدًا عند شقة نجاة. كنت متخيلة أن خميس سيدخل ليحيّي نجاة، وهو تقليد متبع في البلدة حين تكون العروس غريبة عن البيت.

عند وصولنا، استقبلتني حماتي وعمتي بابتسامة. أخذتني عمتي في حضنها وقالت:
“نورتي يا بنت أخي!”

أما حماتي، فقد احتضنتني وظلت تزرغت بفرح، وحينها صرخ خميس قائلاً:
“ما هذا يا أماه! لا هكذا، نحن في حالة وفاة، ألا تريدون أن يقال علينا؟”

سمعت صوت عمّي من الأسفل:
“صوتك لا يعلو في البيت طالما أنا حي… يلا خميس، خذ مرتك إلى شقتك.”

دخلنا شقتنا، وقال خميس:
“ألف مبروك يا ست البنات، نورتي بيتك… أعلم أن كلامي قد يبدو غريبًا، لكن صدّقيني، هذا لمصلحتنا. أحبك، أنا من طلب من أبيّ أن أتزوجك… كل ما أطلبه منك أن تلتزمي الصمت حتى تفهمي كل شيء.”

كانت نبرة صوته وطريقته غريبة، لكني شعرت بالثقة فيه، ربما لأن خوفي كان من يرعاني.

في تلك الليلة حلمت بست ثريا، كنا عند مقابر العائلة، وكان هناك قبر مفتوح. أمسكت يدي وقالت:
“تعالي لأريك شيئًا…”

كانت تريد أن تدخلني القبر، لكني رفضت. ولحظة لقينا القطة السوداء واقفة على باب القبر، بنظرات شريرة. استيقظت مفزوعة على صوت طرق الباب، وكانت عمتي نعمة حاضرة لتجلب لنا الفطور.

مرت الأيام، وكنت ملتزمة بالبيت، لكن حلم ثريا كان يتكرر يوميًا. وفي أحد الأيام، سألت خميس عن سبب منع عمتنا نعمة لأهلي من زيارتي، فشرح لي أن هذا جزء من العادات والقوانين في البيت، وأن كل شيء يجب أن يتم بحساب.

وذات يوم، طلبت نجاة مقابلتي، وكانت لحظة مرعبة ومتوترة. عند دخول غرفتها، شعرت بأن الغرفة أشبه بكهف مظلم، والمرايا كبيرة، وسبحة ضخمة ورأس ثعلب ميت على الحائط. تحدثت نجاة إليّ بكل هدوء، وأخبرتني بأسرار عائلتنا منذ الطفولة، عن الأعمال السحرية التي كانت والدتها – وهيبة – تقوم بها وعن طرق حماية الأسرة.

روت لي كيف كانت أمي ووالدي يتعاملان مع هذه الأعمال، وكيف أنني كنت جزءًا من هذه الحكاية دون أن أدري، وأن كل ما حدث من أذى في الماضي كان مرتبطًا بهم وبالمال والسلطة، وليس من صنيع شخصي مني.

دخلت نعمة فجأة، وكانت عينيها مليئتين بالشر، وأظهرت قوى غريبة، حتى أن انعكاسها في المرآة لم يظهر، بل كان انعكاسي أنا فقط. ثم، تصاعدت الأحداث ووصلت إلى لحظة محاولة خميس الدفاع عني باستخدام سكين، وأُدين خميس فيما بعد، وتم دفن نعمة خارج البلدة.

عدت إلى أهلي، وحكت لهم كل التفاصيل. بعد فترة اكتشفت أنني حامل، وفرحت كثيرًا، وكنت أزور خميس وأبشّره، رغم الحوادث والكوابيس المتكررة عن الأطفال والقط الأسود، الذي كان يحاول إيذاء ابني، لكن الله حفظه.

مرت السنوات، وخرج خميس من السجن، وحاولنا معًا نسيان ما حدث، والبدء من جديد لأجل أولادنا، والحمد لله أصبح لدينا أولاد كثيرون، وعزيز كان أولهم.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

تحقق أيضا
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى
ممنوع نسخ النصوص!
arArabic

أنت تستخدم إضافة Adblock

الرجاء اغلاق حاجب الاعلانات