ليليث.. الوجه الآخر للأنوثة


… امرأة خرجت من رحم الليل
مقدمة: حين يتكلم الظلام
في كل زاوية من زوايا الأرض، تهمس الليالي باسمٍ واحدٍ وإن اختلفت لغاته.
هناك دائمًا “هي” — امرأةٌ من دخانٍ وضوء، لا تُشيخ ولا تموت، جميلة حدّ الخطر، وعيناها تشبهان بوابتين إلى الجحيم.
في الحكايات الشعبية، في أساطير القرى المنسية وعلى جدران المعابد القديمة، تكرّر الوجوه نفسها: ليل يسكن جسد امرأة، وغواية تُفضي إلى فناءٍ مؤكد.
يبدو أن العالم لم يخترعها، بل استيقظ ذات ليلٍ ليجدها واقفة عند بابه، تبتسم له من وراء الضباب.
الجمال الذي يسبق اللعنة
في مصر، يسمّونها “الندّاهة”؛ تنادي الرجال من بين الغيطان بصوتٍ كالسحر، فتجذبهم نحو النيل ثم يبتلعهم الصمت والماء.
وفي بلاد الرافدين، تظهر “السعلاة”؛ جسدها مغطّى بالشعر، ووجهها لا يُرى إلا بعد فوات الأوان.
وفي اليمن والجزيرة يسمّونها “أم الصبيان”، العاشقة المجرّدة من الرحمة، تسكن البيوت حين ينام الأطفال، وتختار فريستها كما تختار الريح وجهتها.
وفي المغرب، تتبدّل ملامحها إلى “عيشة قنديشة”، فاتنة الرجال وموتهم في آن.
ومع كل رحلة إلى أرض جديدة، يتبدّل الاسم وتبقى الروح هي ذاتها: المرأة التي أكلتها الرغبة حتى صارت رغبةً خالصة، تقتل بالهَمْس وتغوي بالنَّظر.
ولادة الاسم الأول
أقدم أثر لاسمها وُجد منقوشًا على قرصٍ سومري من طينٍ جافٍ، منذ ما قبل الميلاد بثلاثة آلاف عام.
كانوا يسمّونها “ليليتو”، سيدة الظلال ورفيقة الفسق والشهوة.
قيل إنها عاشت داخل شجرةٍ عند ضفاف دجلة، يحرسها تنين من نار، وكانت تطير ليلاً كالعاصفة.
حين علم الملك جلجامش بأمرها، قطع الشجرة وطعن التنين، فهربت إلى الصحراء وتركَت وراءها وعدًا بالانتقام.
ومنذ تلك الليلة، لم تعد ليليتو تُرى بأعين البشر، لكنها بدأت تُرى داخل أحلامهم.
زوجة آدم الأولى
في نصٍ قديمٍ من “أبجديّة ابن سِيرَه”، تُروى الحكاية بشكلٍ آخر؛
كانت “ليليث” – لا “حوّاء” – المرأة الأولى لآدم. خُلقت من الطين مثله، وسرت فيها الحياة بذات النفخة، فلم ترَ فيه سيّدًا ولا مالكًا.
لكنها تمرّدت حين طُلب منها الطاعة، فهربت إلى البحر الأحمر وأقسمت أن لا تعود.
عندها لعنها الإله وحوّلها إلى شيطانةٍ ليلية، تجوب الأفق باحثةً عن أطفال البشر لتنتقم من نسل الرجل الذي رفضته.
منذ ذلك الحين، صار على كل وليدٍ ذكر أن ينجو من سبع ليالٍ مرعبة، يُرشّ فيها الملح حول سريره، وتوقد الشموع لطرد ظلّها.
هكذا وُلد “السبوع” بين الطقس والرهبة، موروثًا شعبياً لا يعرف الناس أن أصله تعويذة ضد ليلث القديمة.
ليثث في الديانات والعقائد
في التقليد اليهودي، ذُكرت ليليث بوصفها “امرأة الشياطين” التي تجلس على ضفاف البحيرات، تُغوي الرجال وتخنق الأطفال.
وفي التلمود توصف بأنها “طويلة الشعر كالأفعى، لا تُمسك بها يد بشرية”.
ثم تسلّلت إلى الأساطير المسيحية شريكةً للشيطان نفسه، كرمزٍ للإغواء الأبدي، فتارةً يُرسمان معًا في هيئة النار والليل، وتارةً في هيئة النجم والظلّ.
أما في بعض الروايات الإسلامية المتأخرة، فيظهر الاسم الآخر — “أم الصبيان” — كظلٍ بعيدٍ لتلك الفكرة القديمة.
كائنٌ أنثويّ يعيش بين السماء والأرض، لا يدخل بيتًا يُتلى فيه القرآن، ولا يصيب إنسانًا يحمل على صدره ذكر الله.
هي تجسيدٌ للشرّ الأنثويّ غير المروّض، ذاك الذي لا يُقتل بالسيف بل بالوعي والصبر والإيمان.
رموزها التي لا تموت
تتكرر رموز ليليث عبر القرون:
الهلال الممدود كأنّه قرنان،
اللبؤة المفترسة… البومة التي تسهر حين ينام الجميع،
الأفعى التي تحمل الخطيئة الأولى،
والنجم الخماسي الذي يرمز لنورٍ ساقطٍ من السماء.
يقول الحكماء إن هذه الرموز لم تختفِ، بل أعادت تشكيل نفسها في الديانات والفنون والشعارات، متخفيةً بأسماء جديدة.
كلما ظنّت الأجيال أنها تخلّصت من أسطورة ليلث، عادت لتجدها على باب معبدٍ قديم أو في قصيدةٍ غريبة أو وشمٍ غامضٍ لا يعرف معناه صاحبه.
عودة سيدة الليل
يُقال إن ليلث لا تموت، لأنها لم تُخلق كما يُخلق البشر.
هي النصف الذي نُفي من العالم حين حكم الرجال الأرض،
النصف الذي يعيش في الليالي الطويلة، في أحلام النساء المتمرّدات، وفي خوف الرجال من الجمال الذي لا يُروّض.
حين تهبّ الرياح في ساعةٍ متأخرة، وتسمع امرأةً تضحك من بعيدٍ بلا سبب،
ربما تكون هي — تحوم بأجنحتها السوداء حول نوافذ النائمين، تتشمم رائحة القلوب الخائفة، وتبتسم…
لأنها تعرف أن الإنسان، مهما تحصّن بالعلم والإيمان، سيظل يخشى الليل.
وفي كل خوفٍ، تعود هي لتولد من جديد.
هي ليلث، ابنة الظلّ، سيدة الرغبة الأولى، وأمّ الأساطير التي لا تموت.
وما كانت يومًا مجرد حكاية… بل مرآة للجانب المظلم فينا جميعًا.