المنبوذ


كان يعيش في أطراف القرية شاب نحيل يُدعى “المنبوذ”، هكذا كانوا يلقبونه لأن أحدًا لم يكن يجرؤ على الاقتراب منه. لم يكن شريرًا، لكنه مختلف عنهم. يعيش وحيدًا في منزل طيني متآكل الجدران، ورائحته تنبعث بالعفن والرطوبة. كانت أمه قد ماتت منذ سنين، وأبوه اختفى ذات ليلة ولم يُعثر له على أثر. لم يزر أحد منزله قط، إلا الريح التي تعوي حول النوافذ المهشّمة كأنها تصرخ معه. في النهار يعمل في الحقول بصمت، وفي الليل يجلس أمام مصباح زيتي صغير يحدّق في اللاشيء، محاصرًا بصدى وحدته.
ذات مساء، بينما كان المطر ينهمر بقوة والبرق يشقُّ السماء مثل لسان ناري، سمع همسة خافتة تأتي من ناحية البئر القديمة المهجورة خلف منزله. تردّد الصوت كأنها مناداة غامضة، طفيفة، لكنها واضحة كأنها تخاطبه شخصيًا. خرج رغم البرد، تتقافز الظلال على الطريق الموحل، حتى وقف عند حافة البئر. كان صداها العميق يبتلع أصوات الريح. ثم سمع الهمسة بوضوح هذه المرة: «أخيرًا جئت». تراجع خطوة، لكن الفضول تغلب عليه. “من هناك؟” سأل، فجاءه صوت ناعم كأن الريح تنطقه: «صديق».
منذ تلك الليلة لم يعد الشاب وحده. كان الصوت يظهر له كل مساء، يحدثه، يواسيه، يسأله عن أحزانه. لم يكن يرى من صاحب الصوت شيئًا، لكنه شعر به كأن الحضور يملأ البيت. كان يحدثه من الظل، من بين شرائح الضوء المنكسر على الجدران. ومع مرور الأيام، بدأ الصوت يتجسّد شيئًا فشيئًا، في هيئة ضباب خفيف يتلوّن بلون القمر ثم يتماوج حتى يصير شكلاً باهتًا لرجل. لم يخَف الشاب، بل شعر براحة غريبة. كان هذا الكيان يضحك أحيانًا، ويغضب حين يراه مكتئبًا. لم يعد يشعر بالوحدة. أخبره الجني، كما عرّف نفسه لاحقًا، أنه مكث قرونًا تحت هذه الأرض، محبوسًا عن أعين العالم، يبحث عن رفيق يسمعه.
صار الجني يساعده في أعماله اليومية، فيزرع له الأرض وينقل له الماء من بعيد، حتى إن جيرانه بدأوا يتهامسون: كيف تزدهر أرض المنبوذ فجأة؟ وكيف يلمع ضوء غريب من كوخه كل ليلة؟ لم يعبأ بالناس، فقد وجد من يملأ فراغ روحه. كان الجني يحب الحديث الطويل عن الزمان القديم، عن أرواح سكنت أماكن لا يجرؤ أحد على ذكرها، عن حكايات عن بشر خذلوه ذات زمن طويل. وبعد فترة صار الجني يغيب أيامًا ثم يعود. وعندما يعود، يكون وجهه أكثر شحوبًا وعيناه كسيرتين، كأن عليه ثِقلاً لا يُحتمَل.
في إحدى الليالي، عاد الشاب إلى منزله فوجد الجني جالسًا قرب المصباح، ملامحه جامدة لا تعبّر عن شيء. قال له بصوت متعب: «هناك من يحاول استدعائي من جديد، لكنني لا أريد أن أرحل». جلس الشاب أمامه يشعر بقلق لم يعرفه من قبل، وسأله: «من؟». لم يُجِبه الجني، بل اقترب منه وحدّق في وجهه طويلًا حتى شعر بحرارة غريبة تسري في جسده كأن النار تسكنه. «أترى؟» قال الجني، «لقد تشابكت أرواحنا، ولن يمكن لأحد أن يفرق بيننا بعد الآن». شعر الشاب بالخوف لأول مرة. حاول النهوض، لكن ساقيه ارتجفتا. صرخ: «ما الذي فعلته بي؟». ابتسم الكيان ابتسامة باهتة وقال بصوت يشبه الأنين: «أنقذك من وحدتك… لكن الثمن كان أكبر مما تظن».
في الأيام التالية، بدأ الناس يلاحظون أن المنبوذ تغيّر. لم يعد يخرج كثيرًا. صوته صار مبحوحًا، ونظراته متوترة. وفي الليل يسمعون من بيته أنينًا وأصواتًا غريبة تشبه الهمس والضحك في آنٍ واحد. الأطفال لم يعودوا يمرّون بقرب المكان. مرة رأته امرأة من بعيد يتحدث إلى الفراغ، ثم يضحك فجأة، ثم يصمت وينهار كمن فقد عقله. حاول أحد الرجال التحقق من أمره لكنه لم يجرؤ على الاقتراب، فقد قيل إن باب بيته يُفتح من تلقاء نفسه بعد منتصف الليل.
في تلك الليلة المشؤومة سمع أهل القرية صرخة مدوية شقّت السكون. هرعوا تجاه بيت المنبوذ، لكن حين وصلوا لم يجدوا إلا الباب مفتوحًا والمصباح مطفأً، والدخان يتسلل من الشقوق كرائحة لحم محترق. لم يعثروا على جسد الشاب، ولا على أي أثر يدل على وجود شخص هناك. على الأرض وجدوا فقط كتابًا قديمًا مبلولًا بالماء، مكتوبًا على صفحاته رموز غريبة لا يفهمها أحد. بعض الشيوخ قالوا إنه كتاب استحضار للأرواح، لكن لا أحد يعلم كيف حصل عليه. من تلك الليلة ظلّ البيت مهجورًا. حتى الريح بدت وكأنها تتجنّبه. إلا أن البعض، من حين لآخر، يؤكد أنهم يرون ضوءًا خافتًا يلمع من داخله وصوتًا هادئًا يقول: «أخيرًا جئت…».
مرت سنوات، والقرية نفسها تغيّرت. مات الشيوخ، وكبر الصغار، ونسيت الأجيال الحديثة قصة المنبوذ. إلا أن البئر القديمة بقيت صامتة كما كانت، لا يجرؤ أحد على الاقتراب منها. يقول بعض الرعاة إنهم حين يمرّون قربها يشعرون بشيء ينظر إليهم من الأعماق، شيء يتنفس ببطء. وفي إحدى الليالي، جلس فتى صغير على حافتها، يلعب بحجر ويرميه داخلها، فسمع صوتًا خافتًا يأتي من الظلمة: «صديق…».
لكن الغريب في الحكاية أن ذلك الفتى عاد إلى قريته بعد أيام، وأصبح مختلفًا بطريقة غامضة. كان يغيب ساعات في الحقول، ويحدث نفسه كمن يؤنس روحًا خفية. وحين سُئل ذات مرة عما يشغله، قال بابتسامة باهتة تمامًا تشبه ابتسامة ذلك الشاب المنبوذ قبل اختفائه: «أنا لست وحيدًا بعد الآن».
ومنذ ذلك الوقت، لم يجرؤ أحد على قول كلمة عن المنبوذ أو عن الجني الذي كان صديقه. ومع كل مطر يهطل على القرية، كانت الهمسات تعود، تتردد من بين جدران البيوت كأنها ذكرى لا تموت، همسات تقول: ربما لم يكن الجني الشرير هو المشكلة، بل الوحدة التي أيقظته من سباته الطويل.
ولا أحد حتى اليوم يعرف إن كان المنبوذ قد اختفى حقًا، أم أنه صار جزءًا من الظلال التي تسكن البئر.
فكل من يقترب من المكان يسمع الصوت ذاته يناديه برقة: «اقترب… لن تكون وحدك بعد الآن».
ثم لا يُرى بعد ذلك أبدًا.




جمييييييل