البيت الذي لم يهدأ أبدًا


بقلم:سليم حبار
تمرّ سنوات من أعمارنا نعتقد أننا تخلّصنا من ماضيها، لكن بعض الذكريات تظلّ تطلّ برأسها من بين طيات الزمن، تمامًا كما تفعل الأرواح التي لا تجد سبيلًا للمغادرة. هناك بيوت – كالبشر – تُولد مثقلة بالوجع، وتبقى أسيرة صدى ما حُفر فيها من خوفٍ أو فاجعة.
ولستُ أدري، بعد هذه الأعوام، إن كنت أصدق فعلاً ما رأيت، أم أن عقلي – المسكون بالخوف وقتها – تلاعب بي.
لكنّي، وبكل صدق، سأروي ما عشته كما أحتفظ به في ذاكرتي منذ أكثر من خمسة عشر عامًا.
كنتُ آنذاك في منتصف العشرينات، أعمل في شركة صغيرة وأعيش مع والديّ وأختي. كنا نبحث عن بيتٍ هادئ في أطراف المدينة بعد أن سئمنا ضجيج الشقق وضيق المساحات. وجَد والدي منزلًا رخيص الإيجار، قديم الطراز لكنه فسيح.
في المرة الأولى التي زرناه فيها، أحطنا بصمتٍ غريب. لا طيور، لا أصوات أطفال، فقط رائحة التراب القديم والرياح التي تمرّ عبر النوافذ المكسورة فيصدر عنها همس يشبه الكلام.
“سالم، ماذا ترى؟” سألني أبي يومها.
أجبت بابتسامةٍ مترددة: “بيت يحتاج بعض الترميم، لكنه مناسب…”
لم أقل له الحقيقة؛ أن المكان لم يُشعرني بالراحة منذ أول خطوة. كانت الأرض توحي بأنها احتفظت بأقدام من مرّوا فوقها قبلنا، بأصواتهم، وربما بذكرياتهم التي لم تمت بعد.
صفقة الشراء كانت سهلة، أسرع مما يجب. صاحب البيت، رجلٌ خمسينيّ ذو نظراتٍ زائغة، وافق فورًا على تخفيض الإيجار ولم يكثر من الأسئلة. قال فقط:
“البيت قديم، لكنّه قوي، عاش فيه أناس طيّبون.”
ثم تلعثم قليلًا وأضاف: “عاش… ورحلوا.”
لم نلتفت إلى تردده. كنا فرحين بالمكان الجديد، نعلّق الستائر ونزرع الورد في الحديقة اليابسة، نحاول أن نبثّ فيه حياةً تُنسيه كهولته. لكن شيئًا في الجو كان يرفض الانبعاث.
في الليلة الأولى، بعد أن هدأ كل شيء، جلستُ على الشرفة أراقب السماء. كان الجو دافئًا، والهدوء مطلقًا.
ثم مرت نسمةٌ باردة بين كتفي كأن أحدهم تنفّس قربي.
تجاهلت الأمر. الإنسان بطبعه لا يميل لتصديق ما يخيفه.
لكن عند منتصف الليل استيقظتُ على صوتٍ واضح: ثلاث طرقات على الحائط، منتظمة، تتوقف ثم تعود. ارتبكت. ظننت أن أخي يمزح، لكن الغرف كانت مظلمة، والبيت كله غارقٌ في صمتٍ عميق.
تكرّر الصوت مرة أخرى، فجلستُ على حافة السرير أُصغي وأنا أشعر بقلبي يدقّ بسرعة غير مبرّرة. بعد دقائق اختفى، كأنه لم يكن. حاولتُ النوم من جديد، لكني لم أفلح. بقيتُ أضمُّ الغطاء إلى وجهي وأتساءل: هل يسمع الإنسان أحيانًا ما لا يراه؟
في اليوم التالي، أثناء حملي لبعض الأدوات من الخارج، لاحظتُ الجيران يتابعونني بنظراتٍ صامتة. امرأةٌ مسنّة توقفت عند زاوية الشارع تراقبنا طويلاً دون أن تقترب. رجلٌ يخرج من داره، يرمق البيت بسرعة ثم يشيح بنظره.
أحسست أن شيئًا ما نُخفي عنّا.
حين مرّ صاحب البيت ليسلّمنا نسخة المفاتيح الإضافية، سألته بلا مقدمات:
“هل عاش هنا أحد قبلي؟”
هزّ رأسه وهو يتجنّب النظر في عينيّ.
“كل بيتٍ له تاريخه يا بني. هذا البيت… تَعِب قليلًا، لكنه الآن بخير.”
ثم ابتسم ابتسامةً باردة وأدار ظهره. كانت تلك المرة الأخيرة التي أراه فيها.
ليالي المنزل كانت تبدأ هادئة وتنتهي بالارتباك.
طرقٌ خفيف على الأبواب، خطوات في الممرات، همهمات تقترب وتختفي. لم تكن الأصوات عالية لتغدو مرعبة، لكنها كانت واقعية جدًا إلى درجة الصداع.
مرةً كنتُ أذاكر في غرفتي، وفجأة رأيت ظلًا يعبر أمام الباب. لمحت طرفه فقط، ظلّ أنثوي يتحرك ببطءٍ ثم يختفي خلف الحائط.
هرعتُ إلى الخارج فلم أجد أحدًا. الممرّ خالٍ إلا من تيارٍ باردٍ صاعدٍ من أسفل الدرج.
حين عدتُ إلى غرفتي لاحظت أمرًا أغرب؛ الكتب على الطاولة تغيّر ترتيبها. لم ألمسها منذ ساعات.
مرّت أسابيع ونحن نحاول التعايش. أبي كان يرفض الحديث في الموضوع، أما أمي فكانت تتهامس معي خلسة:
“سالم، سمعتُ البارحة أحدًا يمشي في المطبخ بعد الثانية ليلًا.”
كنت أبتسم وأقول لطمأنتها: “ربما الفئران.”
لكني كنت أعلم أنها ليست كذلك.
في آخر الممرّ بالدور الثاني كانت هناك غرفة لم نستخدمها. منذ اللحظة الأولى، كانت رائحتها مختلفة، ثقيلة كأنها مختومة بالرطوبة والسنين. تركنا بابها مغلقًا لأن أثاثنا لم يكفِ لملئها.
وذات ليلة، بينما كنتُ أمرّ قربها، سمعت الصوت.
بكاء. خافت في البداية، ثم أوضح، أنوثيّ، مائل للحزن أكثر منه للخوف.
توقفت أنصت. لم يكن صدى، كان صوت بكاءٍ فعلي يُسمع من الداخل.
نادتني أمي فجأة، فانقطع الصوت. حين عدتُ للغرفة، ساد صمت ثقيل كأن جدارًا يفصل بيننا وبين العالم.
في الصباح أخبرت أبي، فهزّ كتفيه: “ربما الرياح تمر بين النوافذ.”
لكن بعد يومين، سمعنا جميعًا الصوت ذاته.
الليل، الممر الطويل، والباب المغلق، ومن ورائه بكاء أنثى لا نعرفها.
منذ تلك الليلة أصبح البيت مختلفًا. الهواء داخله صار أثقل، النوم صار مجهدًا، والأحلام غريبة. كنا نحلم بأشياء متشابهة: غرفة مظلمة، مرآة، وامرأة ترتدي ثوبًا أبيض طويلًا يغطي قدميها.
الغريب أن والدتي بدأت تضعف، صارت تبكي بسهولة، وأبي أصبح صامتًا أكثر من ذي قبل. كنت ألاحظ أن البيت يغيّرنا ببطء، يستنزفنا كما يجفّ من الماء حجر صغير في شمسٍ قاسية.
ثم جاءت ليلة الخامس عشر من سكننا هناك.
كنت أقرأ على ضوء المصباح حين انقطعت الكهرباء فجأة. غرق البيت في ظلامٍ دامس، ظلامٍ له ملمس ثقيل. كنت أتحسس الهاتف حين سمعت قريبًا من أذني صوتًا خافتًا يشبه الضحكة الخنقة. ثم شعرت بنَفَس دافئ على وجهي.
قفزتُ واقفًا أرتجف، وركضت إلى غرفة المعيشة حيث وجدت الجميع مجتمعين بخوفٍ واضح.
قال أبي بصوتٍ مختنق:
“رأيت شيئًا… ظلّ أسود يمرّ خلفي.”
أما أختي فكانت تبكي:
“كانت تقف هناك، عند نهاية الممر. امرأة ترتدي الأبيض وتنظر إلينا.”
لم نناقش القرار. عند الصباح جمعنا أمتعتنا في عجلة. كنا على وشك الخروج حين أصرّ أبي على فتح الغرفة أخيرًا.
حاولنا منعه لكنه لم يسمع. أحضر مفكًّا وبدأ بفكّ المقبض المعدني. استغرق الأمر دقائق كأن الباب يقاوم.
وأخيرًا انفتح بصريرٍ طويل، كأن أنينًا خرج من الحائط نفسه.
كانت الغرفة شبه مظلمة، يغطي الجدران غبارٌ أصفر كثيف، ورائحةٌ خانقة من العفن والرطوبة. في الزاوية مرآة كبيرة مغلفة بقماش أسود متّسخ.
اقترب أبي وسحب القماش ببطء.
تجمّد للحظة، ثم صرخ مختنقًا وسقط أرضًا.
هرعت إليه أمي، فصرخت بدورها وهي تنظر للمرآة. لم أكن أريد النظر، لكن فضولي غلبني. رأينا في الانعكاس ظلّ امرأة تقف خلفنا بوضوح تام، رغم أن الغرفة خالية تمامًا.
غطّيتُ المرآة فورًا بالقماش، وسحبنا أبي خارج الغرفة. استعاد وعيه بعد دقائق قليلة، وجهه شاحب ويداه ترتجفان.
قال بصوتٍ متقطع:
“رأيتها… كانت داخلي في المرآة. لم تكن تنظر إليّ فقط، بل حاولت أن تلمسني.”
غادرنا البيت في اليوم نفسه. لم ننظر خلفنا.
ومنذ ذلك اليوم لم نجرؤ على العودة.
لكن القصّة لم تتركنا بسهولة. كانت تظهر في أحلامنا، في نوبات البرد المفاجئة، في الأصوات الغامضة التي تمرّ أحيانًا في منتصف الليل.
وبعد أشهر قليلة مررتُ صدفةً من الحي. كان البيت ما يزال خاليًا. نوافذه مفتوحة رغم أن لا أحد يسكنه.
الريح تمرّ في داخله فيصدر عنها الصوت ذاته الذي سمعته في الليلة الأولى: صرير الباب الطويل.
أوقفني أحد الجيران، عرفني فورًا، وقال بصوت خافت:
“لا أحد يبقى هناك. كل من استأجره رحل خلال أسبوع. بعضهم يسمع أصواتًا، وبعضهم يرى امرأة بثوبٍ أبيض عند النافذة.”
اليوم، بعد مرور أكثر من خمسة عشر عامًا، ما زلت أبحث عن تفسيرٍ علميٍ واحدٍ مقنع.
هل تلك الأصوات كانت حقيقة؟
هل يمكن أن يَحتفظ المكان بطاقةٍ غريبة تولّد أوهامًا؟
أم أن شيئًا ما فعلاً يعيش فيما بيننا، في الطبقات التي لا يمكن أن نراها؟
لا أملك الإجابة.
لكن ما أعرفه أن البيت لم يكن بيتًا “سيئًا” أو “شريرًا”، بل كائنٌ مثقلٌ بما لا نعلمه. وربما تلك المرأة التي رأينا ظلّها لم تكن سوى روحٍ مسجونة، ظُلِمت يومًا ولم تجد من يسمع بكاءها.
كلما هبّت نسمة باردة في ليلةٍ هادئة، ينتابني ذلك الإحساس القديم؛ كأنها ما تزال هناك، حبيسةُ مرآةٍ أو جدارٍ أو حتى صدى الخطوات في الممر.
وحين أمرّ صدفة بجانب بيتٍ قديم، يهمس داخلي سؤال لم أجد له جوابًا بعد:
هل نحن من نسكن البيوت؟
أم أن البيوت – بما فيها من ذكرياتٍ ونبضٍ خفيّ – هي من تسكننا، وتظلّ فينا حتى آخر العمر؟
بعد خمسة عشر عامًا من الرحيل، ما زال البيت الذي لم يهدأ أبدًا… يطاردني في الأحلام.




ابدعت حقا ياسليم
في انتظار جديدك