خاتم الجني


بقلم:احمد المنذري
سأحكي لكم اليوم قصتي مع العالم الآخر، عالم الجن. بدأت هذه القصة منذ أيام والد جدي، قبل أكثر من 100 سنة. كان والد جدي معروفًا بصياغة الفضة والنحاس والنقش عليهما، وصناعة الصواني والآنية والمرايا. كان لديه دكان صغير في سوق الصاغة داخل المدينة القديمة بتارودانت.كان رجلًا بسيطًا جدًا، ينتقل بين دكانه وبيته والمسجد، ولم يكن يختلط كثيرًا بالناس، خاصة بقية الصاغة الذين كانوا يبغضونه ويحاولون إيذاءه لأنه كان يبيع دائمًا بسعر أقل منهم. كان يرضى بالربح القليل ويدعو الله أن يبارك له فيه. لذلك، كان دكانه يعج بالمشترين، مما أثار حقد أصحاب الدكاكين الأخرى، فبدأوا بنشر شائعات بأن الفضة التي يستخدمها مغشوشة، ولهذا كانت أسعاره منخفضة. ومع انتشار هذه الشائعات، قل عدد زبائنه، لكنه ظل يحمد الله راضيًا بما قسمه له.في يوم من الأيام، ذهب ليشتري بضاعة وعاد إلى دكانه ليلًا لتخزينها. أغلق الباب، صلى العشاء في الدكان، ثم جلس يرتب البضاعة. فجأة، سمع طرقًا على الباب، فسأل: “من الطارق؟” لكن لم يجبه أحد. استغرب، خاصة أن السوق كان خاليًا تمامًا في ذلك الوقت من الليل، وجميع الدكاكين مغلقة. تكرر الطرق فتقدم نحو الباب، وعندما فتحه، وجد أمامه رجلًا غريب الهيئة.يحكي جدي أن لهذا الرجل عينين لم يرَ مثلهما غرابة في حياته، ومن خلالهما يمكن أن تجزم بأن الذي أمامك ليس بشرًا. سلم الزائر وقال: “هل أنت فلان؟” أجاب والد جدي مستغربًا: “نعم، أنا هو.” فقال الرجل الغريب: “أعرفك منذ كنت صغيرًا، وأعرف والدك الحاج العربي رحمه الله.” يقول والد جدي إنه أثناء حديث الرجل، بدت بعض أسنانه مرصوصة من فضة لامعة.أضاف الرجل قائلًا: “كنت مارًا من هنا، فقلت أُسلم عليك وأسأل عن حالك.” دعاه والد جدي ليذهب معه إلى البيت ليكرمه إكرامًا لذكرى والده وصحبته القديمة معه. قال له: “انتظرني هنا، سأغير ملابسي ثم نذهب.” دخل ليغير ملابسه، لكنه عندما عاد لم يجد الرجل، وكأنه تبخر في الهواء أو ابتلعته الأرض.وجد مكانه خاتمًا من فضة خالصة، منقوشًا بإتقان كبير بنقش عجيب، وبه حجر كريم أسود اللون. انتظر والد جدي لساعات، لكن الرجل لم يعد. فوضع الخاتم بجوار الخواتم الأخرى، ثم أغلق الدكان وعاد إلى البيت. حكى لزوجته ما جرى، فقالت: “لعله نسي الخاتم، وحتماً سيعود إليه.”منذ ذلك اليوم، زاد عدد زبائنه وكثر بيعه، مما أثار دهشة بقية التجار، وبدأوا يرددون أنه عمل سحرًا، وأن ما يحدث غير معقول. لكنه لم يهتم لكلامهم، وزاد عمله حتى أخرج جدي من الكتّاب ليعلمه الصنعة ويساعده في الدكان.يقول جدي إن كل من يرى ذلك الخاتم ينبهر به ويعرض ثمنًا باهظًا لشرائه، لكن والده كان يقول إنه أمانة وليس للبيع. في ذلك الصيف، زار سوق الصاغة مجموعة من الزوار من إحدى الدول العربية. وقع نظر أحدهم على الخاتم وقدم عرضًا ضخمًا، لكن والد جدي رفض بيعه قائلًا: “لا أستطيع بيع ما لا أملك.”بعد ثلاثة أشهر، بينما كان والد جدي يصلي قيام الليل في بيته، رأى شيئًا يتحرك في زاوية الغرفة. دقق النظر، فوجد نفس الشخص الذي زاره في الدكان، يشير إليه بيده والخاتم في إصبعه. كانت حركاته ثقيلة جدًا، وعندما رآه والد جدي أغمي عليه.في الصباح، وجده جدي ملقى على الأرض، فأيقظه وسأله لما ينام على الأرض، لكنه لم يُجب. هرع والد جدي إلى الدكان ليتفقد الخاتم فوجده في مكانه. ظن أنه أصيب بجنون ولم يفهم ما الذي يحدث. طلب من جدي أن يأتيه براقٍ. في اليوم التالي، جاء الشاب الراقي إلى الدكان، وحكى له والد جدي كل ما جرى. طلب الراقي رؤية الخاتم، وعندما رآه طمع فيه وقال: “يجب أن آخذه معي لأقرأ عليه، ربما كان مسكونًا.”وثق والد جدي به وأعطاه الخاتم. لكنه في نفس الليلة، عاد الراقي طارقًا باب البيت بعد منتصف الليل، وأعاد الخاتم دون أن يتحدث أو يفسر ما حدث. في تلك الليلة، رأى جدي في المنام رجلًا مهيبًا يضع تاجًا من فضة على رأسه وقال: “قل لوالدك أن يحافظ على الأمانة ولا يضيعها.”بعد عام، صار والد جدي من كبار تجار الفضة المعروفين، واشترى دارًا كبيرة.في وسط المدينة القديمة في تارودانت، في ليلة من الليالي، استيقظ للقيام قبل صلاة الفجر وأيقظ جدي ليصلي معه كالمعتاد. يحكي جدي أن النعاس كان يغلبه ووالده يصلي أمامه. فجأة، شاهد شخصًا يقف إلى جوار والده ويضع يده على كتفه. صدم جدي مما رأى وظن أنه يحلم أو يتخيل، لكنه لم يقطع الصلاة وأتمها وهو مشوش حتى سلم والده. ثم أخبره بما شاهد، فقال والده: “لقد أحسست بالشيء ذاته، وعلمت أن أحدًا غيرك خلفي، لكني لم أشأ الالتفات”.يقول جدي إن الشخص الذي كان خلف والده بدا قوي البنية، وقد غطى كل جسده وحتى وجهه، ملثمًا لا تظهر ملامحه. لم يكن جدي ووالده يخافان من هذا الخلق لأنه لم يسبق له أن آذاهم بشيء، واستمرت تجارتهما بالازدهار، مما زاد حقد التجار الآخرين عليه.في ليلة من الليالي، سمع طرقًا قويًا على باب المنزل وصارخًا ينادي: “انهض يا فلان، دكانك يحترق!”. خرج جدي ووالده يهرولان نحو الدكان، فوجدا النار تلتهمه. حاولا إخمادها بأساليب بسيطة، وساعدهم في ذلك بعض سكان الجوار الذين تحلقوا بالمكان. وبعد ساعتين، أخمدت النار. دخل جدي ووالده فوجدوا الجدران قد صارت سوداء بفعل الدخان والنار، أما السلع الفضية والنحاسية فلم تُصب بأي أذى، وهو شيء عجيب وغريب.بعد شهر، باع جدي دكانه واشترى دكانًا آخر أكبر من الأول، فقد زاد الطلب على تجارته أكثر مما كان من قبل. علمنا بعد ذلك أن من قام بإضرام النار في الدكان القديم هما تاجران لكل منهما دكان مقابل لدكان جدي. أما الأول فوجد ميتًا في دكانه ولم يعلم أحد سبب وفاته، وأما الثاني فجاء بعد ذلك إلى والد جدي يطلب منه العفو والصفح، مخبرًا إياه أن صاحبه الذي مات هو صاحب الفكرة الشيطانية، ثم أبدى ندمه على فعلته الشنيعة.كان والد جدي طيب القلب فسامح الرجل وعفا عنه. صار يرى ذلك الجني صاحب الخاتم في المنام، فيحثه على التصدق للمسجد وعلى المساكين. فصارت هذه عادتنا ولا تزال مستمرة إلى الآن، خصوصًا في يوم الجمعة، هذا عدا زكاة تجارة الدكان في كل سنة. وما يزيدنا هذا إلا بركة وخيرًا عميمًا.وبعد قرابة العشر سنين، اشترى والد جدي رياضًا كبيرًا (والرياض هو منزل فخم من طابقين أو أكثر، له غرف واسعة كثيرة تطل على وسط الدار الذي يحتوي على نافورة ماء). وبعدما استقروا في الرياض، طلب والد جدي من زوجته أن تكف عن أشغال البيت بالليل. كانت امرأة لا تهدأ ليل نهار ولا تكف عن الأشغال والتنظيف في كل وقت. جادلته في هذا الأمر وادعت أن الوقت بالنهار لا يكفيها لإتمام كل الأشغال. فأخبرها أنه كان بين اليقظة والنوم حين رأى امرأتين نادته إحداهما باسمه، وصوتها غريب متقطع. فتح عينيه دون أن يخاف منهما، كانتا تغطيان رأسيهما بثوب ولا تظهر وجهيهما. سأل: “ماذا تريدان؟” فقالت إحداهما: “اسمع يا فلان، نحن نسكن في هذا المنزل من قبل أن تأتوا إليه. لا شأن لنا بكم. قل لزوجتك أن تكف عنا وتتوقف عن الأشغال في وقتنا. لكم النهار ولنا الليل”.لكن زوجة والد جدي لم تستوعب الكلام وكأنها لم تصدق كلام زوجها، وظنت أنه يخوفها فقط. وفي ليلة كان مدعوًا رفقة جدي إلى وليمة أحد أصدقائه الذي عاد من الحج. بقيت مع ابنتيها لوحدهن في الرياض. ذهبت البنتان للنوم، أما هي فدخلت المطبخ وبدأت في غسل الأواني. ولما انتهت وكانت في طريقها إلى غرفة النوم، شعرت بأحد يرفعها ثم يسقطها أرضًا. لم ترَ من يكون ولا كيف شكله لأنه اختفى في لمح البصر.عندما عاد جدي ووالده، وجداها متوعكة في فراشها. سألها ما بك؟ فقالت إنها انزلقت وسقطت، ولم تشأ أن تخبره الحقيقة خوفًا من أن يعاتبها عتابًا شديدًا، لأنه سبق أن حذرها من عاقبة الاشتغال ليلاً في المنزل.توالت المواقف الغريبة في هذا الرياض خصوصاً بعدما غمس جدي في طريق الطيش والخطيئة مع عدة نساء، فكان يعطيهن من الحُليّ التي توجد بالدكان. حتى إذا عاد والده بعد أن تعافى من مرضه، وجد الدكان شبه فارغ من السلع والمعروضات. هنا اشتد غضب والد جدي على ابنه، وطرده من الدكان ومن البيت.أما الفرنسية التي كان جدي شغوفاً بها، فقد أعادها أهلها إلى فرنسا بعدما علموا عن علاقتها المشبوهة بشاب مسلم. بعد ما طرده والده من البيت، انتقل جدي للعيش في بيت إحدى الساحرات، والتي طلبت منه فعل مجموعة من الطقوس حتى يرضى الجن عنه.انجرّ جدي إلى طريق الضلال وتاه عن الحق وأغواه الشيطان. صار معروفاً في المدينة بحفلات الجن التي ينظمها هو ومن معه، والتي يتخللها رقصات غريبة وتقديم القرابين للجن من الذبائح وغيرها، ثم شرب دماء الذبائح وأكل لحمها نيئاً.بعدها، بدأ يعمل مع بعض السحرة الباحثين عن الكنوز، وأمضى معهم أياماً طويلة. كانوا يريدون أخذه معهم إلى اليمن، وقالوا له إن هناك كنوزاً ودفائن كثيرة تحتاج فقط لمن يُخرجها بعزائم الجن وتعويذات. لكنه لم يشأ الذهاب معهم، وعاد إلى بيت الساحرة حيث كان يسكن.صدمته رائحة منتنة وكريهة عند الباب. ولما دخل، وجد تلك الساحرة ميتة فوق أوراقها المليئة بالطلاسم، وبالقرب منها الخِرَق وأشياء أخرى. يا لها من نهاية! إنها سوء الخاتمة. حفظنا الله والمسلمين جميعاً منها.تم اعتقال جدي والتحقيق معه لمدة طويلة، حيث اتهموه بقتل الساحرة التي كان يعيش معها في بيتها. وبعد عام، أُطلِق سراحه، فلم يكن هناك أي دليل يدينه في جريمة القتل، واكتُشِفَ أن الساحرة ماتت بسكتة قلبية وليس بفعل فاعل.خرج من السجن ليذهب ويسكن وحيداً. علم بعدها أن والده مريض جداً، وأن دكانه لم يُفتح منذ أكثر من ثلاثة أشهر. فذهب ليزور والده، وفي البداية لم تقبل أمه أن يدخل المنزل، وكذلك والده وهو على فراش المرض رفض أن يكلمه. لكن جدي استعطف والده وطلب منه الصفح والعفو، فعادت المياه لمجاريها وتصالح الوالد مع ولده وعفا عنه.لكن صدمة جدي كانت قوية حين رأى ذلك الخاتم في أحد أصابع والده، ولم يعلم كيف تمكن من استعادته من ذلك الساحر. سأله لكنه لم يجب، فقد أراد أن يكتم السر هذه المرة عن الجميع، حتى زوجته لم يخبرها بشيء. وبعد أسبوعين، فارق الحياة.تحكي الفتاة الصغيرة، أخت جدي، أنه لما كان والدها محمولاً على الأكتاف في الطريق إلى المقبرة، شاهدت رفقة المشيعين رجلاً يلبس السواد، شديد الطول. وبعد وفاة والده، صار جدي مسؤولاً عن البيت. أما الخاتم، فقد تكفلت أمه بإخفائه، ولم تُرد أن تعطيه لجدي الذي عاد للعمل في أحد الدكاكين التي تركها والده.استمرت المواقف الغريبة في الرياض الذي يسكنونه، وكانت أخته الصغرى أكثر من يرى ويسمع أشياء لا يقبلها العقل، وتكاد تفزع كل من سمعها. ويبدو أن أخته هذه كانت زهريّة.في إحدى ليالي رمضان، قامت لتناول السحور، فرأت بأم عينها أسرة من أب وأم وأطفال جالسون حول مائدة الطعام. لم تعرف من يكونون أو من أين أتوا. نظروا إليها جميعاً في وقت واحد، نظرة واحدة مفزعة، ثم اختفوا. بدأت في البكاء، وقالت لأمها إنها لن تأكل في تلك المائدة التي كانت عليها أسرة الجن.كانوا كل ليلة يسمعون أحداً يطوف الرياض بأكمله ويطرق جميع أبواب الغرف، غرفةً غرفة. وبعد عامين وفي عيد الأضحى، قاموا بنحر الأضاحي في الباحة الخلفية حيث النافورة القديمة. مر اليوم بسلام، لكن في الليل كانوا يسمعون صوت من يجري في الباحة الخلفية، وفي وسط الدار كأنه حصان جامح، مرفوقاً بضجيج وضرب على الأبواب.خرجت أم جدي رحمها الله، ورأت ما لم تتحمل رؤيته، والذي لا يعرف أحد ما يكون، لأنها بعد ذلك أصيبت بشلل تام، ولم تعد تقوى على الكلام، تحرك عيناها فقط. وبعدها بخمسة أشهر توفيت، دُفن معها سرها؛ سر ما رأت في تلك الليلة بعد العيد.بعد ذلك، قرر جدي أن يبيع الرياض، فأخذ ثمنه وأعطى لأختيه نصيبهما. الأولى كانت قد تزوجت، والثانية عاشت معه حتى أتى من يخطبها فتزوجت هي أيضاً وغادرت إلى بيت زوجها. أما جدي، فاشترى منزلاً قرب دكانه حيث يعمل، وأعاد الخاتم إلى مكانه بجانب بقية الحليّ والتحف.أما الخاتم الذي أعطاه ذلك الساحر، فيقول إنه دفنه في المقبرة. تقدم جدي لخطبة فتاة رآها لأول مرة رفقة أمها في دكانه، اشترت من عنده سلسلة وخاتماً، فأعجب بها وسأل عنها، ثم تم الزواج. كانت هي ووالداها من أطيب الناس.ولم يعد جدي إلى طريق الحرام والضلال. بعدها بسنتين، وُلِدت عمتي، وبعدها ازداد أبي الذي قربه جدي منه وعلّمه التجارة منذ الصغر. ازدهر دكان جدي من جديد، وكثر زواره من داخل البلاد وحتى من خارجها، ومعظمهم يسأل عن ثمن الخاتم الفضي العجيب، فكان دوماً يكرر أنه ليس للبيع.وهكذا، انتهت قصة الخاتم العجيب، وبقي السر محفوظاً في طيات الماضي، لا يعلمه إلا الله.