تجارب مرعبة

القرية المهجورة

بقلم:سالم الدوخي

“اسمي إبراهيم. سأحتفظ بعُمري لأنه غير مهمّ. المهم أن تركزوا في الأحداث لتفهموا ما الذي حصل معي بالضبط.”

كان إبراهيم يعيش مع أمّه وأبيه وأخيه الأصغر سمير الذي يصغره بعام واحد. لم يكن للعائلة أقارب قريبون؛ فالأم فقدت أهلها بعد زواجها بشهر واحد في حادث، والأب كان يتيماً منذ صغره، ولم يبقَ له إلا أخ واحد يعمل خارج البلاد ولا يزورهم إلا كل بضع سنين. لذلك كان أفراد الأسرة مرتبطين ببعضهم ارتباطاً شديداً.

كان والد إبراهيم يعمل في هيئة الإنقاذ، وحياته اليومية بسيطة: يوصل ولديه للمدرسة صباحاً، ثم يعود لاصطحابهما ظهراً. وفي أحد الأيام، جاء الأب فجأة إلى المدرسة بسيارته، وأخذ أبناءه، ثم نزل وحده وهو يحمل خطاباً رسمياً. وبعد دقائق عاد ومعه ملفاتهم المدرسية. لم يفهم إبراهيم ولا أخوه ما الذي يحدث، لكنهما عرفا لاحقاً أن الأب حصل على ترقية تتطلب انتقاله مع عائلته إلى مكان بعيد.

حزن إبراهيم كثيراً، خصوصاً أنّه كان في آخر سنة دراسية وسيبتعد عن أصدقائه الذين عرفهم منذ الطفولة. لكن لم يكن هناك خيار؛ القرار صدر، والعائلة ستنتقل بعد يومين فقط. قضوا هذين اليومين في ترتيب الأغراض وإغلاق الغرف، لأن المنزل القديم ملك لوالده وسيعودون له يوماً ما.

ثم جاء موعد الرحيل.

كانت الرحلة طويلة جداً، حتى وصلوا إلى المكان الجديد. أول ما لفت انتباه إبراهيم أنّ المكان غريب: في بدايته منازل حديثة، لكن في عمقه بيوت طينية قديمة جداً، متلاصقة، تبدو مهجورة وكأنّ عمرها يزيد عن مئة عام. البيت الذي سيسكنون فيه كان آخر بيت من البيوت الحديثة، ولا يفصله عن البيوت الطينية إلا طريق ضيق.

وعند وصولهم، وجدوا عاملاً هندياً يجلس تحت شجرة، يضحك بطريقة غريبة. أعطاهم مفتاح المنزل بعد أن أخبره والد إبراهيم باسمه، ثم دلّهم على اتجاه البيت. ومنذ اللحظة الأولى، لم يشعر إبراهيم بالراحة؛ الهدوء كان خانقاً، والهواء يمر بين البيوت بصوت مخيف، والقرية بدت وكأنها خالية من البشر. والأغرب… مجموعة كلاب تقف أمام أول بيت طيني، تحدّق بهم باهتمام، ثم تهرب.

دخلوا منزلهم الجديد، وكان واسعاً ومكوّناً من طابقين، لكن الأم خصّصت لإبراهيم وأخيه غرفة صغيرة رغم وجود سبع غرف فارغة. كانت نافذة الغرفة تطلّ مباشرة على البيوت الطينية من جهة، وعلى بيت حديث خالٍ من الجهة الأخرى.

في المساء، خرج إبراهيم ووالده وأخوه للصلاة في المسجد الذي دلّهم عليه العامل. وعندما وصلوا إليه، وجدوه مفتوحاً ومضاءً… لكنه فارغ تماماً. وعند بدء الصلاة، انطفأت الأنوار فجأة، وانغلق الباب من تلقاء نفسه.

توقفوا عن الصلاة فوراً، واتجهوا نحو الباب. نادى إبراهيم من نافذة المسجد حتى لمح العامل نفسه واقفاً في الخارج. اقترب العامل مسرعاً وفتح الباب وهو ينظر حوله بخوف شديد وقال بصوت منخفض:

“لا تصلّون هنا ليلاً… صلّوا فقط الظهر والعصر. لا تأتوا في المغرب والعشاء.”

ولم يوضّح السبب.

عادوا نحو البيت. وأثناء مرورهم قرب البيوت الطينية، اقترح سمير دخولها لاستكشافها، لكن الكلاب خرجت فجأة وبدأت بالنباح عليهم بقوة وكأنها تمنعهم من الدخول. ارتعبوا فعادوا مسرعين. كان إبراهيم متيقناً أنّ في تلك القرية شيئاً خطيراً.

بعد أيام قليلة، وصلت عائلات أخرى من زملاء والد إبراهيم، فأصبحت المنطقة مأهولة بست عائلات جديدة. وكان بين الأبناء:

  • سالم
  • صالح
  • خليل
  • ومعهم إبراهيم وسمير.

أصبحوا جميعاً أصدقاء، يجتمعون كل يوم تقريباً، خصوصاً في غرفة إبراهيم للعب “بلاي ستيشن 3” الذي كان جديداً وقتها.

وفي أحد الأيام، بينما كانوا يلعبون ليلاً، سمعوا نباح الكلاب مجدداً. نظر إبراهيم من النافذة، فرأى أخاً صغيراً لأحد أصدقائه يدخل أحد الأزقة المؤدية للقرية القديمة. ركضوا جميعاً لإنقاذه، لكن ما إن دخلوا الزقاق حتى شعروا بحرارة خانقة ورطوبة غريبة كأنهم دخلوا غرفة بخار. رأوا الطفل يجري خلف شيء غير مرئي.

حمله خليل بسرعة، لكن قبل أن يخرجوا…
سمعوا باباً خشبياً ثقيلاً يُغلق ببطء داخل القرية.

هربوا مذعورين دون النظر خلفهم.

ومن تلك اللحظة، أدرك إبراهيم أن القرية ليست مهجورة كما تبدو.

في تلك الليلة، لم يستطع إبراهيم النوم. تذكّر حرارة الزقاق، صوت الباب، ورؤية الطفل يجري خلف شيء لا يراه أحد. قرر أن ينظر إلى القرية من نافذة غرفته. فتح الستارة ببطء… فرأى مشهداً لن ينساه:

أكثر من عشرين كلباً تقف في صف واحد عند مدخل القرية، تنظر نحوه مباشرة دون أن تتحرك.

أراد أن يوقظ سمير، لكن ما إن حاول إغلاق النافذة… اختفت الكلاب داخل القرية فجأة، كأنها تبخّرت.

عاد إلى سريره، وبقي مستيقظاً حتى غلبه النوم.

في الصباح، خرجت النساء لزيارة بعضهن، أما الرجال فكانوا في مهمة عمل ستستمر عدة أيام. شعر إبراهيم أنه الأكبر بين الموجودين، وأن عليه مسؤولية تجاه العائلات. اجتمع الأصدقاء مساءً قرب البيت، وتبادلوا الحديث عن الأحداث الماضية. ومع مرور الوقت… حلّ الظلام.

ومن هنا بدأت الليلة التي غيّرت كل شيء

دخل الليل، أخذت والدتي الحافظات والطعام الذي أعدته وذهبت إلى منزل السيدة أم أحمد، وكان منزلها مجاورًا لمنزلنا مباشرة. دخل الأصدقاء إلى بيتنا، كما هو المعتاد في عطلة نهاية الأسبوع، والبيت خالٍ من الآخرين، مما أعطانا شعورًا بالمرح والاستمتاع. فجأة، وأثناء لعبنا، سمعنا صراخ النساء من بيت أم أحمد. من دون تفكير، توجهنا جميعًا لنرى ما الأمر، فإذا بأم عبيد تبكي وتخبرنا بأن ولدها الصغير، أخو عبيد، خرج من البيت ولا يعرفون مكانه.

سألنا الأطفال الصغار عن مكانه فقالوا إنه كان يلعب معهم وفجأة اختفى. عندها قلت لهم إنه لا بد أن يكون قد دخل القرية المهجورة كما حدث سابقًا، والغريب أن الكلاب المعتادة لم تظهر هذه المرة. عبيد، وهو خائف على أخيه، قال لنا: “هل ستأتون معي أم أذهب بمفردي؟” فرد سعيد: “كيف ستدخل وتبحث داخله وأنت لا تدري إن كان موجودًا؟” قلت لهم: “حسنًا، لنقسم أنفسنا، مجموعة تدخل القرية ومجموعة تبحث بين باقي البيوت”.

اقترح أخي عبد الله: “دعونا ندخل جميعًا القرية، فلن يذهب لمكان آخر”. وكما لاحظت في المرة السابقة، أخو عبيد كان يبكي ويريد العودة إلى القرية. اتفقنا جميعًا على الدخول، ورافقنا النساء خوفًا على الصغير، وطمأناهن أننا لن نخرج إلا وهو معنا.

دخلنا، وشعرنا بحرارة غير طبيعية وأصبحنا نعرق، وتعمقنا أكثر داخل القرية المهجورة. الهدوء كان مخيفًا، كأننا داخل متاهة. بعد فترة، سمعنا صوت طفل يضحك، واعتقدنا أنه أخو عبيد، فتبعنا الصوت، لكنه كان يتحرك وكأنه يبتعد كلما اقتربنا منه. فجأة، رأيت شيئًا أسود يمر بسرعة بين الإسطبلات، وأشرت للعيال على الاتجاه، فتبعنا الصوت حتى وصلنا إلى أحد البيوت المفتوحة.

ترددنا في الدخول، لكن لم يكن هناك حل آخر، فدخلنا لنجد الطفل، وإذا بشخص مجهول يظهر من طرف الباب. بمجرد أن طلبت منه المساعدة، أغلق الباب بقوة، ووجدنا أنفسنا في مواجهة الخوف مرة أخرى. حاولنا الصراخ لإيجاد مخرج، لكن صدى الأصوات كان يأتي من كل اتجاه. فجأة، سمعنا صوت والدتي يناديني من خلف البيت، فاقتربنا من الصوت ووجدنا المخرج الصحيح.

وعند المخرج، شاهدنا مجموعة من الكلاب، كان معها رجل غريب، ظهره منحني ووجهه مغطى بالشعر، لدرجة أنه بدا وكأنه حيوان. غريب أن أخو عبيد الصغير ضحك ومد يده للرجل وكأنه يريد اللعب معه. الرجل أمرنا باتباع أحد الكلاب للخروج، وفعلنا ذلك وخرجنا من القرية المهجورة في حالة يرثى لها، وظل عبد الله وسعيد منهكين على الأرض، بينما حمل عبيد أخاه الصغير إلى والدته.

عادت والدتي لتطمئننا، وأخبرتنا أن نتجنب القرية تمامًا، لأنها مليئة بالأشياء الغريبة والخطرة. في اليوم التالي، عاد والدنا وزملاؤه، وتبين لهم أن العامل الذي يحرس القرية يعرف كل شيء ولكنه لا يريد الإفصاح عنه. بعد مراقبة العامل، اعترف أن الرجل المليء بالشعر وأولاده كانوا يعيشون في القرية منذ ست سنوات، بعد حادثة غريبة حولتهم. وقد لاحظوا وجود الكنوز في إحدى القرى القديمة، وأرادوا استكشافها، لكن الجن المسلمون منعوهم من الخروج، لذلك بقي الرجل وأولاده في القرية.

وعلمنا بعد ذلك أن اختفاء أخو عبيد الصغير، وظهور الشعر على جسده، كان نتيجة وجود هؤلاء الأشخاص الغامضين داخل القرية، وما زالت حالته مستمرة حتى اليوم. أما العامل، فلم يُسمع عنه أي خبر بعد ذلك.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

تحقق أيضا
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى
ممنوع نسخ النصوص!
arArabic

أنت تستخدم إضافة Adblock

الرجاء اغلاق حاجب الاعلانات