الشاهد الوحيد في عرس الجن


بقلم: شاهد الاطياف
منذ القدم، كانت العلاقة بين الإنسان وعوالم الجن مليئة بالغموض والرهبة. هناك قصص لا يمكن تفسيرها بالعقل، وتجارب لا يصدقها إلا من عاشها بنفسه. يرى البعض أنها مجرد أوهام، بينما يؤمن آخرون بأنها عوالم موازية تلتقي معنا عندما تفتح الأبواب بين الغيب والواقع. في تلك اللحظات، تتغير القوانين، ويصبح الليل مسرحًا للأسرار التي تُروى همسًا. هذه ليست مجرد خيال، بل هي رحلة حقيقية إلى عالم لا يمكن إدراكه إلا من خلال الخوف… عالم يسكن ما وراء المجهول.
اسمي عدي، من إحدى محافظات العراق.
لما توفّي والدي، قرّر إخوتي توزيع تركته بالاتفاق والتراضي. كان لوالدي – رحمه الله – أملاك كثيرة، وكنا أربعة إخوة. فكان من نصيبي البيت القديم الذي عاش فيه والدي زمنًا، لكنه ظلّ مغلقًا في السنوات الأخيرة.
كان في مكان شبه قروي تحيط به أراضٍ زراعية. رضيت بالقسمة وبدأت أجهّز نفسي للانتقال للعيش هناك.
عندما ذهبت أول مرة، تفاجأت أنّ كل البيوت القريبة من بيتنا تمّ هدمها وإزالتها، إلا بيتًا واحدًا مجاورًا لبيتنا القديم.
وقفت أمام الباب الذي علاه الصدأ والتراب منذ قرابة عشر سنين، لم يأتِ أحد إلى هنا منذ زمن.
بقيت متأملًا وأنا أسأل نفسي: كيف سيكون شكل البيت من الداخل؟
لكنّي تفاجأت أن داخل البيت أفضل حالًا من خارجه، فقط بعض الغبار على الأثاث القديم والعفريشة.
وضعت حقيبتي في إحدى الغرف، ثم جلست أفكر فيما عليّ فعله.
قررت في اليوم الموالي أن أدعو أحد أصدقائي ليساعدني في تنظيف البيت، فلن أستطيع فعل ذلك وحدي.
أمضينا اليوم في الترتيب والتنظيف، ثم أخذت صديقي بالسيارة وأوصلته إلى بيته، وعدت إلى البيت خارج المدينة.
لا أدري لماذا، لكني لم أشعر بالارتياح. فما إن أغمضت عينَي حتى سمعت أصواتًا غريبة.
ولما قمت من فراشي، لم أسمع أي شيء، ثم فتحت الباب الخارجي وأطللت في اتجاه الأرض الزراعية، فلم يكن هناك شيء غريب سوى الأعشاب والنباتات المتكاثرة حول البيت.
عدت إلى الداخل أتقلّب على الفراش، ثم سمعت طرقًا على الباب!
قمت فزعًا مرتبكًا وأصغيت السمع، فكانت هناك أصوات طبول تُقرع، آتية من مكانٍ ما في الخارج، ومعها أهازيج غريبة.
قررت الخروج لأرى مصدر الصوت، لكن قبل ذلك أطللت من النافذة لأتفاجأ أن هناك عرسًا في البيت المجاور!
خرجت من البيت ووقفت مستغربًا أمام الباب، فلا يظهر أحد من أصحاب هذا الحفل. كان الباب مفتوحًا، ثم خرج رجل يمشي على عجل، نظر إليّ وقال:
– عدي، متى جئت؟
استغربت أنه ناداني بالاسم، فقلت له:
– أعذرني يا عم، أنا لم أعرفك.
فقال:
– أنا جاركم، أبو فراس.
قلت له:
– لقد كان والدي يكلّمنا عنك أحيانًا، ولا يذكرك إلا بالخير، ويقول: نعم الرجل ونعم الجار أبو فراس.
في تلك اللحظة أمسك يدي، كانت قبضته قوية وجامدة، وأدخلني إلى بيته.
فتفاجأت بما رأيت: حفل عرس مختلط، رجال ونساء في بهو كبير، يرقصون على أنغام غريبة، وملابسهم فاقعة الألوان لم أرَ مثلها في حياتي!
كنت أنظر إليهم باندهاش، وفجأة تغيّر العزف وصار ثقيلًا يرافقه ضرب على الدفوف والطبول، ليدخل بعدها العروسان.
كانا يلبسان السواد، ولاحظت قصر قامتيهما، فقد كان العروس والعريس من الأقزام.
استغربت كثيرًا من ذلك، ولاحظت أن أذن العريس أكبر من المعتاد.
بقيت شارداً، فجاءني أبو فراس وقال:
– مرحبًا بك، لا تخشَ، ارقص، أنت لست غريبًا عنّا. نحن نحبك ونحب والدك.
استمر الرقص والغناء، ثم سمعت جلبة قادمة من الخارج، ليدخل بعدها مجموعة من الرجال والنساء كلّهم يلبسون ثيابًا حمراء اللون.
صاروا يركضون داخل الدار بحركات أغرب ممن رأيت في البداية، واختلط الجميع في رقصات جنونية، ثم شكّل أصحاب اللباس الأحمر دائرة، لتشتعل نار في وسطها من العدم!
ارتعبت حينها، وصرت ألتفت فزعًا كأني أعيش كابوسًا مرعبًا، ليطبق الظلام بعدها…
أحسست بأحدهم يحاول خنقي بكل قوّة، وأنا لا أستطيع حركة ولا صراخًا!
فتحت عينَي لأجدني قرب الباب، والنهار قد أوشك على الطلوع.
نظرت جهة البيت حيث كان العرس، فكان الباب مفتوحًا.
توجهت إلى هناك، فخرجت امرأة تغطي وجهها، ولما رأتني أغلقت الباب بقوة ودخلت.
شردت أفكر فيما حدث ليلة أمس: أكان حلمًا؟ أم حقيقة مرعبة؟
أمضيت اليوم منهكًا، وبعد العصر ذهبت إلى صديقي، تناولنا الغداء، ثم جلسنا نتسامر.
قال لي:
– أشعر أن شيئًا ما بك، ما القصة؟
قلت له:
– فعلاً، ما حدث معي لا يصدّقه عقل…
فحكيت له كل ما شاهدته الليلة السابقة، فضحك وقال:
– أكيد هذا حلم، لأنك تنام وحدك في ذلك البيت القديم الواسع، يجب أن تتزوج في أقرب وقت!
شعرت ببعض الاطمئنان بعد كلامه، ثم قال ممازحًا:
– إن كنت خائفًا، يمكنك المبيت معي.
قلت له:
– لا داعي لذلك، سأعود إلى البيت.
رجعت، وأوقفت السيارة قرب الباب. كان سكون الليل مهيبًا، لا أدري لِمَ قلبي منقبض.
فتحت الباب وسرت نحو غرفة النوم، وأحسست أن أحدًا يمشي خلفي!
هرعت إلى المسجّل وشغلت إذاعة قرآن، ومضت الليلة بسلام حتى الصباح.
لكنّ الصدمة أنني بقيت نائمًا طوال النهار دون أن أشعر بالوقت، ولما استيقظت كنت في غاية التعب والإرهاق.
نظرت إلى الساعة، فإذا هي السابعة مساءً!
يا الله… كيف مضى اليوم كله دون أن أشعر؟
قمت بتثاقل إلى الحمّام، وبعدها تفاجأت بورقة مطويّة مرميّة من تحت الباب.
أخذتها وفتحتها، فوجدت مكتوبًا فيها:
مرحبًا بك الليلة، أنت مدعوّ لحفل الزفاف في بيت جاركم أبو فراس.
استغربت من الأمر، إن كان هذا حقيقيًّا فلماذا لم يأتِ أبو فراس ليدعوني بنفسه؟
فتحت باب البيت ونظرت جهة بيت أبي فراس، فكان مزينًا بالأضواء، ويبدو غاصًّا بالناس، كثير منهم جالسون في الخارج.
أيمكن أن يكون عرسًا فعلاً؟
بقيت شارداً لا أدري ما الحقيقة وما الخيال…
وفجأة خرج أبو فراس!
حاولت أن أتجنّب الحديث معه وأدخل البيت، لكنه ناداني باسمي وتقدّم نحوي، صافحني بحرارة وقال:
– مرحبًا بك في عرسنا، أنت ضيف عندنا الليلة. ربما لا تذكرني، لكني عرفتك، فالشبه واضح جدًا بينك وبين أبيك.
في تلك اللحظة تملّكتني فِضول غريب…
أردت أن أدخل إلى الحفل لأرى:
هل هو نفس ما رأيت بالأمس؟
قلت له: سأغيّر ملابسي أولًا ثم آتي.
قال: لا داعي لذلك، تبدو أنيقًا هكذا.
دخلت مع أبي فراس إلى البيت، وكان كل شيء عاديًا: مدعوون جالسون، أطفال يلعبون، وبعض الأهازيج كما في سائر الأعراس. جلست على أحد الكراسي أتأمل الوضع، وبعد لحظات وقف أمامي شخصان طويلان جدًا تنبعث منهما رائحة منتنة.
لم أفهم لماذا يقف هذان أمامي وينظران إليّ هكذا، ثم بعدها وقف كل المدعوين لأتفاجأ أنهم كلهم أطول مني!
غير معقول هذه القامة… ثم ازدادت الرائحة الكريهة حتى أني أغلقت أنفي بيدي، ثم رأيت دخانًا كأن نارًا اشتعلت في المكان.
بعدها أحسست بيدين تلمسان كتفي، نظرت فإذا هي أيدٍ شديدة السواد. التفتُّ فزعًا لأرى شخصًا لا تظهر ملامحه، ثم بدأ الرقص والغناء على أنغام لم أسمع مثلها من قبل.
كنت في تلك اللحظات أحس أني في عالم غير عالمي، قد ملأني الخوف واستبدّ بي الرعب، فصرخت أنادي:
– يا أبا فراس! يا أبا فراس! أين أنت؟
فأتى الرجل يهرول في اتجاهي، فقلت له:
– من هؤلاء؟ وأين أنا؟
قال:
– هؤلاء أقاربي، وأنت في عرسنا.
قلت له:
– لكن شكلهم غريب، وطولهم غير عادي!
فضحك ثم قال لي:
– وما الغريب في أن يكون المرء طويلًا؟ اجلس هنا، سأحضر لك ماءً تغسل به وجهك.
ثم أحضر قربة وصبّ عليّ من مائها، فكان الماء ساخنًا!
كان الوضع كله يوحي بأنني في المكان الخاطئ، لا ينبغي أن أكون هنا.
صارت وجوه الحاضرين تتغيّر، وملامحهم تتبدّل، حتى أبو فراس نفسه!
كنت وسطهم، أكاد يُغمى عليّ من الخوف، وصوت غنائهم يصمّ الآذان.
أردت الهرب، لكني شعرت أني مكبل اليدين والقدمين. حاولت أن أمشي جهة الباب، كانت خطواتي ثقيلة، وفي كل مرة أرتطم بأحدهم فينظر إليّ بنظراتٍ مرعبة.
ركضت إلى الخارج، ومن شدّة خوفي نسيت القرآن، ونسيت أن أتعوّذ من الشيطان.
سقطت أرضًا وسط الأرض الخالية بين بيتي وبيت أبي فراس وأنا أصرخ، ومن حولي تتعالى ضحكات الشياطين!
شعرت أن أحدهم يجرّني من قدمي، فتحت عينَي، فرأيت كلبًا أسود يمسك قدمي بأنِيابه ويجرّني نحو بيت أبي فراس.
لكن… لم يعد هناك أحد! لقد اختفى الجميع، واختفت أصواتهم!
ثم التفتّ نحو الكلب الأسود… لم يعد موجودًا هو أيضًا! لقد اختفى، تركني وذهب.
نظرت في اتجاه بيت أبي فراس، بدا ساكنًا، لا أثر للحياة فيه. اقتربت منه خطوتين، لا أحد يعيش في هذا البيت، هذا أكيد.
باب الحديد صدئ، وقد علت الأتربة النوافذ المغلقة.
وبينما أنا واقف، سمعت امرأة تكلّمني من الداخل وتقول:
– ما الذي تريد؟
فقلت لها:
– اخرجي، أريد أن أكلمك.
سمعت الباب يفتح، لتخرج امرأة منحنية الظهر، شعثاء الوجه، تلبس جلبابًا أسود قاتمًا.
فزعت منها وقررت المغادرة، وما إن هممت بالهروب حتى دُفعت بقوة إلى داخل البيت، وانغلق الباب!
أحسست بقلبي ينقبض، وسمعت صوت المرأة الكريهة تضحك كأنها تسخر مني.
كان البيت مظلمًا، لا يظهر فيه شيء سوى أطياف كالظلال تطوف حولي.
قمت واتجهت إلى الباب، حاولت فتحه، لكن أحدهم ضربني على يدي ضربة قوية، أحسست أن يدي تنزف دمًا، فسقطت مغشيًا عليّ.
لم أدرِ كم مرّ من الوقت، استيقظت بعدها لأجد الباب مفتوحًا.
حمدت الله أني لا أزال على قيد الحياة، وعدت إلى بيتي ونمت حتى طلع النهار.
خرجت أتجول، أريد أن أعرف قصة هذا البيت.
ابتعدت في اتجاه القرية، فوجدت في الطريق راعيًا يسوق غنمه أمامه، فسألته إن كان يعرف شيئًا عن أبي فراس وبيته المهجور.
فقال الراعي:
“البيت لم يعد لأبي فراس، فقد باعه منذ سنين لشخصٍ ما كان يعيش هناك بمفرده،
لكن هذا الشخص وُجد ميتًا داخل البيت!
وكثيرون يشكّون أنه قد قُتل، ومنذ ذلك الحين والبيت مهجور،
ولا أحد يجرؤ على الاقتراب منه، خصوصًا في الليل،
إذ تصدر منه أصوات غريبة ومخيفة،
وفي بعض الأحيان يُسمع صوت غناءٍ وطرب، كأنه عرس!”
صمت الراعي قليلًا، ثم قال لي:
– لكن، لماذا تسأل؟
قلت له:
– لأنني أسكن بجواره.
عندها قال الراعي:
– كان الله في عونك! لو كنت مكانك لما لبثت في ذلك البيت ولو لساعة واحدة، لن أغامر بحياتي!
فقلت له:
– معك حق، لقد كدت أفقد حياتي بالأمس.
ثم قصصت عليه بعضًا مما عشته في الليلتين السابقتين.
قررت بعدها ألا أعيش في ذلك البيت.
عرضته للبيع، واكتريت بيتًا صغيرًا في المدينة، اتخذت من القرآن رفيقًا ومن الذكر مؤنسًا.
بيع البيت بعد أسابيع، وتخلّصت منه ومن ذكراه المريرة، ومن جواره المشؤوم.
لكنّي لن أنسى عرس الجن الذي حضرته مرتين.
هل ما عاشه “عدي” كان مجرد وهم خلقه الخوف، أم أنه فعلاً عبر إلى عوالم الجن؟ برأيكم، هل يمكن أن تتقاطع حياة الإنسان مع عالم غيبي كهذا دون قصد، أم أن هناك من يُختار ليشهد ما لا يُرى؟



