تجارب مرعبة

عهد الظل : قصة صالح

بقلم:اسماعيل العلي

منذ اللحظة التي غادرت فيها المنزل، شعرت بأنه يراقبني، فساورني الخوف من نظراته ومن الكلمات التي تفوه بها، إذ بدت لي غريبة ومقلقة. كان يتحدث عن “رفيقي”، لكنني لم أكن واثقًا إن كان يقصد قريني، ذاك الذي يرافقني دومًا. بدا صالح وكأنه تحول إلى شخص آخر، منعزل، منطوٍ، بالكاد يأكل، وقد أصبح أكثر عزلة في أيامه الأخيرة، لا يغادر غرفة نومه، يجلس في الظلام بعد أن يطفئ الأنوار، وكثيرًا ما كنا نسمعه يتحدث مع أحدهم داخل الغرفة.

وحين كنا ندخل عليه ونشعل الضوء، كان يثور غضبًا ويصرخ: “أنا لا أحد معي، ما بكم؟! اخرجوا وأطفئوا الأنوار!” واجهته ذات مرة وقلت له إنني سأخبر والدي بأنه دخل المقبرة، فأنكر ذلك وقال إنه كان يتمشى ولم يدخلها. بدأت والدتي تشك في حالته، وسألتني عن اليوم الذي رافقته فيه، فطمأنتها وقلت إن الأمور طبيعية، وإنه كان يسير في الممشى كعادته، ولم أشأ أن أخيفها بموضوع المقبرة.

لكن حالة صالح استمرت في التدهور، حتى بدأنا نفقده لأيام طويلة. وفي أحد الأيام، قالت له والدتي: “يا ولدي، أريد أن أزوجك.” تردد في البداية، لكنها استمرت في إقناعه حتى وافق. وفي اليوم الذي وافق فيه على الزواج، لم يخرج من غرفته، ولم يذهب إلى المقبرة، لكن عند منتصف الليل بدأت أحداث غريبة تقع في المنزل.

كنا جالسين في الصالة حين سمعنا صراخًا قادمًا من غرفته، بدا وكأن أحدًا يضربه، وصوت تحطيم يتردد من الداخل. صعدنا إلى الطابق العلوي وحاولنا فتح الباب، لكنه كان مغلقًا بإحكام، وكان صالح يصرخ بأعلى صوته: “والله لن أتزوج! لن أتزوج!” ظل والدي يركل الباب حتى فتحه، فدخلنا لنجد صالح ملقى على الأرض، فاقدًا للوعي، وعلى جسده آثار ضرب مبرح، والغرفة خالية تمامًا إلا منه.

رش والدي الماء على وجهه حتى استعاد وعيه، وحين فتح عينيه، كانت حمراء كمن بكى طويلًا. تجاهلنا جميعًا، ثم التفت إلى والدتي وصرخ بها: “أنت السبب! أنت من ستدمرني! والله لن أتزوج، وإن فتحتِ الموضوع مرة أخرى، سأقتلك!” صُدمت والدتي من كلامه، فقد كان دائم البر بها، يحبها حبًا جمًّا، وكان أول أبنائها وأقربهم إلى قلبها، فكيف له أن يقول لها ذلك؟! دمعت عيناها وغادرت الغرفة، بينما ظل صالح يحدق بها حتى خرجت.

لم يكن خالي قادرًا على التواصل مباشرة مع ذلك الرجل، إذ كان يعيش في الجبل، منعزلًا عن الناس، من أولئك الذين يختارون العزلة ويهابهم الجميع. أخذنا صالح بالقوة، بعد أن قيدناه، فقد كان يقاومنا بشراسة مخيفة، يصرخ ويلعن ويهددنا طوال الطريق، متوعدًا بأن يؤذينا واحدًا تلو الآخر إن لم نتركه.

وصلنا إلى الرجل الجبلي، وما إن فتح الباب حتى حدّق صالح فيه وبدأ يشتمه، قائلاً له: “لن تقدر عليّ، أنا أقوى من كل من عندك.” هزّ الرجل رأسه وقال: “خذوه اليوم، أبقوه مربوطًا، وغدًا أعيدوه إليّ، فأنا أعرف كيف أتعامل معه.”

استأجرنا شقة قريبة من الجبل، وبقينا فيها تلك الليلة، وصالح لا يكف عن الصراخ والتهديد، يحاول فك قيوده، حتى أغمي عليه. وفي تلك الليلة المشؤومة، حلمنا جميعًا بالمرأة المخيفة التي كانت تمشي في ممرات بيتنا، وكل واحد منا رآها تقتله في الحلم بطريقة أبشع من الآخر.

عند الفجر، صلينا وتوجهنا إلى الرجل. أدخلناه إلى غرفة مظلمة، لا نوافذ فيها ولا أثاث، فقط حصير على الأرض وقطعة قماش مبللة في الماء. قال الرجل: “أريد أن أكون معه وحدي، لا يدخل أحد مهما سمعتم من أصوات.” جلسنا عند باب الغرفة، نستمع إلى صالح وهو يصرخ ويتحدى الرجل، وكأن به يقول: “إن كنت كما تزعم، فواجهني وحدك.”

كان الرجل يقرأ آيات من القرآن، ثم يتمتم بكلمات غير مفهومة. وبعد ربع ساعة، خرج وجهه متعرقًا كمن خرج من معركة، وقال لوالدي: “ابنك عاشقته جنية، لكنها ليست جنية عادية، بل ملكة من ملوك الجن، اسمها فلانة، قوية جدًا، تملك عشيرة كاملة، وقد تزوجته، وصار بينهما عهد، وإن نُقض العهد، ستذبحه.”

قال إنه يحتاج أسبوعًا من العلاج، لكنه يحتاج من يثبت صالح أثناء الجلسة، ولم يكن أحد قادرًا على ذلك سوى أنا، فوالدي وخالي كبيران في السن. دخلنا الغرفة، وكان أخي مربوطًا، نائمًا على بطنه. قال الرجل: “مهما شعرت أو سمعت، لا تفتح عينيك، وإلا ستعيش حياتك كلها في عذاب.”

أغمضت عيني، وأنا ممسك بأخي، خائفًا مما سيحدث. بدأ الرجل يقرأ، يمسح وجه صالح بالماء، فكان يصرخ ويلعن، وجسده يسخن كأنني أمسك بحديد ملتهب. التزمت بكلام الرجل، رغم أنني تبولت على نفسي من شدة الخوف.

ثم سقط صالح أرضًا، ساكنًا، وساد الصمت. ناديت الرجل، فلم أسمع صوته. قال لي: “افتح عينيك.” وحين فتحتها، رأيت صالح ممددًا، وعيناه مفتوحتان كمن أصيب بشلل كامل، ووجه الرجل مغطى بالعرق والكدمات.

تكلم صالح، لكن بصوت غريب، وقال: “حرام عليكم، تريدون أن تفرقوا بيني وبين زوجي، حبيبي.” ثم خاطبني: “عبد الله، إن كنت تحب أخاك، فدعني أعيش معه، سعادته معي، لا مع غيري.” بقيت صامتًا، مشلولًا من الرعب.

قال الرجل للجنية: “هذا ليس من حقك، يجب أن تخرجي منه، فهو ليس عبدًا لك.” بدأ صالح يصرخ، ثم فقد وعيه مجددًا. رش الرجل الماء على وجهه، فاستفاق وهو يسب ويلعن، ثم خارت قواه. وضع الرجل دهانًا أسود في فمه وأنفه، فصرخ صالح من الألم، ثم أغمي عليه مرة أخرى.

قال الرجل: “انتهى، لا تخف، دعه هنا، واذهب إلى والدك.” خرجت، وجهي مشوه من التعب، وثيابي مبتلة من الخوف. سألني والدي: “ما بك؟” فلم أستطع الرد. قال الرجل: “خذوا ولدكم، وأعيدوه لي غدًا بعد صلاة الفجر، مربوطًا، مهما حدث، لا تسمعوا كلامه، ولا تخافوا.”

عدنا إلى الشقة، وأنا منهك، وخالي قرر النوم، أما أنا فذهبت للاستحمام. وبينما كنت أغسل رأسي، انطفأت أنوار الحمام، ورأيت ظلًا أسود في الزاوية، وصوت امرأة يقول: “أنت من دلّهم علينا.” اقتربت مني، ولم أستطع الكلام، لكنني صرخت، فدخل والدي وخالي، وأخرجاني من الحمام، عاريًا، يرتجف جسدي من الرعب.

قلت لهم: “غدًا لن أذهب معكم، سأبقى هنا.” فقال والدي: “حسنًا، سننام جميعًا في غرفة واحدة الليلة، لعل الله يمررها على خير.” نام والدي، وخالي يتقلب، أما أنا فلم أذق النوم، كلما أغمضت عيني، رأيت الظل الذي رأيته في الحمام، حتى تخيلت أن صالح يحدق بي ويبتسم.

وعند منتصف الليل، بدأت الصحون تتكسر في المطبخ، فنهض والدي وخالي، وبدأ والدي يقرأ القرآن، وخالي يرتجف. سمعنا طرقًا على الباب، وصالح نائم لا يشعر بشيء، ونحن متجمدون في أماكننا، لا نعرف ماذا نفعل. نظرت إلى صالح، فوجدته يفتح عينيه ويبتسم لي.

استمرت هذه الحال حتى الفجر، ثم أخذنا صالح إلى الرجل. استقبلنا بثقة، وكأنه يعلم ما حدث، رغم أننا لم نخبره بشيء. كرر ما فعله بالأمس، ووضع الصبغة السوداء في فم صالح وأنفه، وقال: “الأمور بخير، تعالوا غدًا.”

وفي اليوم التالي، تكرر الأمر، لكن الجديد أن الرجل بدأ يتحدث بلغة غريبة، غير عربية، والأغرب أن صالح رد عليه بنفس اللغة. استمر العلاج أسبوعًا، وفي اليوم السابع، قال الرجل: “ابنكم تعافى، خرجت منه، ولن تؤذيه بعد الآن.”

عدنا إلى المنزل، وعاد صالح إلى حالته الطبيعية، لكنه لا يذكر شيئًا مما حدث.

هذه قصتنا، والعبرة منها أن الإنسان لا ينبغي أن يستهين بهذه الأمور، فليس شرطًا أن ترى الجن بعينك لتصدق وجودهم. هم مذكورون في القرآن، وأذاهم معروف، فلا تستهزئ بعالمهم، ولا تؤذهم، كي لا يؤذوك. وهذا الكلام موجه للجميع، وخصوصًا أولئك المغامرين الذين يغامرون بأرواحهم ويجرّون أهلهم معهم إلى الهلاك.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

تحقق أيضا
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى
ممنوع نسخ النصوص!
arArabic

أنت تستخدم إضافة Adblock

الرجاء اغلاق حاجب الاعلانات