زواج بعد فتح بوابة لعالم اخر


بقلم :حازم ابراهيم
لم أصدق نفسي حين بدأت الحكاية. لطالما اعتبرنا حديث الجن مجرد أساطير تُروى في المقاهي أو يزيّن بها بعض الشيوخ جلساتهم الليلية. لكنني، أمجد، ابن الحي البسيط الذي لم يعرف سوى رائحة الأقمشة في الأسواق وصوت المزايدات على الملابس المستعملة، وجدت نفسي في لحظة لم يكن فيها للهروب سبيل، وقد صرت رهين عالم آخر مظلم، لا شمس فيه ولا نهار، تحكمه قوانين لم أكن أحلم أنني سأعرفها يومًا. في البداية كنت أظن أن الغرابة تنتهي عند العم إدريس، ذلك العجوز الغامض الذي استأجر البيت الملاصق لمنزلنا، يفتح بابه نهارًا لاستقبال طالب العلاج، ويغلقه ليلًا ليُخفي في داخله أصواتًا لم أجد لها تفسيرًا. كنت أسمع ضحكات واحتفالات وحشودًا غامضة، كأن حفلات زفاف لا تنتهي تدور خلف تلك الجدران، ثم في الصباح ينقلب المكان ساكنًا كالقبر، بلا دخان ولا بشر ولا حركة.
وكلما فكرت أن أفتح باب بيته، كأن قيدًا داخلي يمنعني، حتى تلك الليلة التي قلبت حياتي رأسًا على عقب حين فتحت لي حيزانة الباب. لم أكن أعرف أن تلك العيون الخضراء التي شبكت روحي بنظرة واحدة، ستقودني إلى ليل أبدي لا فكاك منه. منذ أن اختطفتني إلى عوالمها وأنا أشعر أنني لم أعد إنسانًا كاملًا. صحيح أنني أتنفس وأمشي بين البشر، لكن داخلي يعيش معلقًا بين عالمين، يقاظي لبشر وغفوتي لجن، كل همسة، كل انعكاس ظل في زاوية معتمة أراه بعين أخرى، عين لم تعد بريئة.
حين سقطت لأول مرة في عالمهم، في تلك الساحة البيضاء الممتدة تحت ضوء قمر لا يشبه أقمارنا، شعرت بشيء ينزع عني كل يقين بنيته طوال حياتي. كنت مثل الغريق الذي يُسحب إلى أعماق المحيط، لا يدري أهو يموت أم يولد من جديد. ما جعل رعب التجربة أكثر حملًا هو يقيني أنها ليست حلمًا ولا خيالًا، فكل ما لمسته هناك كان أثقل وأكثر واقعية من عالمي الذي تركته خلفي.
حيزانة، بنت الملك عنقود، لم تكن مجرد جنية فاتنة كقصص الأطفال. كانت قوية، ذكية، عيناها تخفيان آلاف الأسرار، وصوتها يتنقل بين رقة أنثى وصرامة ملكة، لا تعرف الوسط. اقتادَتني أول مرة بين الخيام إلى النار الكبيرة التي يجتمع حولها جنٌّ بأشكال تقشعر لها الأبدان. أذكر ذلك العملاق ذو الرؤوس الثلاثة، الذي طأطأت برأسي أمامه خشية أن يعصرني بين يديه كما يُعصر جوزة. وأذكر ذلك الكائن القزم الذي زحف على أربع، عينيه بحجم جمرتين، يبتسم ابتسامة لم تحمل من الإنسانية شيئًا سوى السخرية. كانوا يحلقون من حولي كأنني غريبٌ منتظر، كأن القد fate صار يكتب اسمي منذ مئات السنين ليكون بينهم.
حين أعلن الملك أنني سأكون زوجًا لحيزانة لم أصدق أذني. أنا الذي لم أعد أصلح حتى لحياة بسيطة مع فتاة بشرية، وإذا بي أصير فجأة جزءًا من سلالة وأساطير وقوانين لا يعرفها أحد في عالمي. كنت أريد أن أصرخ، أن أعترض، لكن في داخلي كنت عاجزًا أمام سطوة سحرهم. كنت مثل سجين مسحور يعجز أن ينطق بالرفض.
أصعب لحظة مرت عليّ كانت في ليلة الصيد. امتطينا تلك الدواب الغريبة التي جمعت بين هيئة الجمل وصوت الوحش وعيون الطير الجارح. ما زلت أتذكر ملمس فرائها الخشن الذي يتوهج تحت القمر. انطلقت بنا بخطوات تضرب الأرض كالرعد، حتى لامست رياحهم صدري وكادت انتزع روحي، ولم يتركوني ألتقط أنفاسي حتى حاصرونا وسط الوحوش التي أسموها العلق الآكل. رؤوس مفلطحة، أفواه تنزف دمًا، وأجساد تتلوى كالأفاعي وقد ثُبّتت لها أرجل. رأيت واحدًا منها ينقض على أحد حراسهم، فمزّقه نصفين قبل أن تلتمع السيوف وتقطعه أشلاء. كنت ميتًا واقفًا بينهم، أتنفس كأنني أستعير الهواء من حياة أخرى. تلك الليلة تركت جرحًا في قلبي لم يندمل.
لكن ما لا يُطاق هو أنني رغم كل هذا بدأت أتغيّر. شيئًا فشيئًا صار الخوف عندي ينقلب إلى فضول، ثم إلى تذوق غريب. كل حركة كنت أتعلمها في عالمهم كانت تفتح لي نافذة على قوة لم أكن أعرفها في نفسي. كنت كمن يتذوق ثمارًا مسمومة يعرف أن نهايتها الهلاك، ومع ذلك يُدمن مذاقها. تعلمت أسرار البخور، كيف يتحول في عالمهم إلى طعام يغذيهم، وكيف أن كل رائحة يطلقها البشر في منازلهم تصل إلى الجن فتُصير لهم بركة أو نقمة. تعلمت أن كلمات التعاويذ ليست مجرد طلاسم بل مفاتيح لأبواب صغيرة، كل باب منها يفتح لعالم مصغر، فيه أرواح وأسرار لا تُحكى.
حين ختم الملك كفي بوسم الجن، شعرت أنني فقدت آخر رابط بعالمي. صحيح أنني عدت لأصحو صباحًا في بيت إدريس، أصوات الباعة والكهول تتصاعد في الحي، لكنني كنت أعلم أن الوسم يحرقني داخليًا، وأنني لم أعد أمجد السابق. كانت حيزانة تزورني في الليل، تقترب مني حتى أشعر بأنفاسها تمتزج بأنفاسي، تهمس لي بتعليماتها، تضحك كأنها تعرف أنني لم أعد أملك أي خيار. كانت تقول: أنت لست عبدًا لنا يا أمجد، أنت منا الآن. لم أستطع أن أجادلها، لأنني بالفعل كنت أشعر أنني منغرس بين فرعين، لا بشر كامل ولا جني كامل.
مرّت الأيام الأربعون كحلم ممدود، يعود فيه الليل فيتكرر المشهد ذاكرتي: صوت الطبول، صرخات المخلوقات، جلسات الملك مع حكمائه، وحيزانة التي تحيطني كسِوار من نار وذهب. تعلمت خلالها كيف أقرأ الوجوه حتى لو اختفت في الظلام، وكيف أسمع الخفايا التي لا يسمعها بشر. لكن كل خطوة في التعلم كانت تأخذ مني جزءًا آخر من إنسانيتي. كنت أخاف أن أفقد نفسي تمامًا.
وحين حان اليوم الأخير، عادوا بي إلى عالمنا، أو هكذا توهمت. لكنني لم أعد كما كنت: بين يدي كتب إدريس التي خبأها لي، أسرار السحر وطرقه، بين شفتي كلمات لم أكن أجرؤ على نطقها من قبل. كانت حياتي في السوق قد انتهت، صارت ثياب الدنيا لا تعني لي شيئًا. وجدت نفسي أمارس ما كان إدريس يمارسه: أقرأ الطلاسم وأحل المربوط، أساعد النساء الفقيرات على طرد الكوابيس، وأحيانًا، بصوت خافت، أُحادث الجن كما لو كانوا أقرباء لي. وكثيرًا ما كنت أسمع في الليل حيزانة تناديني من بين الظلال، كأنها لم تعد مجرد زوجة من عالم آخر، بل صرتُ ظلًا يمشي بين عالمها وعالم البشر.
اليوم، بعد مرور أعوام، لا أعرف ماذا أنا بالضبط. لم أعد ابن السوق، ولم أعد مجرد عابر في دنيا البشر. أنا أمجد الذي صار بين العوالم، يحمل وسمًا لا يراه إلا الجن، مرتبطًا بمصير لا ينفصل عنهم. حين أنظر للمرآة، أحيانًا أرى عينيّ كما عرفتهما، وأحيانًا أرى بريقًا غريبًا يشبه بريق حيزانة. وربما… وربما لم أعد أنا فعلًا.
أكتب هذه القصة الآن كما أحسها، لا كذكرى بل كاعتراف. وربما كتحذير. لأنني أدركت أن أغلب البشر يظنون أن الجن يسكنون الليل فقط، وراء الجدران أو في المقابر، لكن الحقيقة أبسط وأقسى: إنهم يعيشون معنا، بيننا، يسيرون جنبنا، ينتظرون لحظة انكسار واحدة، لحظة فضول، لينتزعوك إلى عوالمهم بلا عودة. وأنا خير شاهد على ذلك.
شوقتنا فاشتقنا للزواج من عالم غير عالمنا
احيي خيالك الخصب
وانتظر بشوق مقالك القادم✋✋