حين همس الجن من تحت القبر


بقلم:سائر القصاب
كنت أظن أنني أفهم العالم. أن ما نراه وما نُمسكه هو كل ما هو موجود. كنت أتحدث عن المنطق بثقة العالِم الذي يملك الإجابة لكل شيء. لكن، هناك لحظة في حياة كل إنسان ينهار فيها هذا اليقين. لحظة يكتشف فيها أن العالم أوسع، وأعمق، وأكثر ظلامًا مما ظنه.
تبدأ العلامات بصمت دائم، بتكرار فكرة صغيرة تطفو ثم تختفي، بشعورٍ خفي أن شيئًا ما يراقبك حين تكون وحيدًا. حينها لا يعود المنطق مجديًا، لأن ما يحدث لا يتبع قواعدك أصلًا. تتكلم إلى نفسك لتطمئنها، ولكن العتمة لا تُصغي.
رأيتُ بأمّ عيني كيف أن الناس يتمسكون بكلمات يظنونها حماية — “ورد”، “تحصين”، “آية” — دون أن يدركوا أن الخطر لا يأتي دائمًا من الخارج، بل من ذلك الباب الذي تركوه مواربًا في داخلهم. كم من الذين رأيتهم يرتلون الليل كله، لكن قلوبهم مفتوحة على مصراعيها لشيء لا يعرفونه، شيء يتغذّى على خوفهم، ويبتسم حين يظنون أنهم في أمان.
وهنا تدرك الحقيقة المرة: أن ليس كل ما هو مقدس طاهر، ولا كل ما هو طاهر بريء. ثمة مناطق رمادية، متداخلة، حيث يتشابك النور بالظلال فتضيع البصيرة. وحين تصل إلى هناك، يبدأ صوتك بالارتجاف، لأنك أخيرًا ترى أن ما كنت تعتبره منطقًا لم يكن سوى خرافة أنيقة ترتدي ثوب العلم.
وحين تسقط الحواجز أمامك، وتسير في منتصف تلك المنطقة الرمادية، حيث تمتزج الحكمة بالوهم والإيمان بالخطر، عندها فقط يفكر عقلك لأول مرة بصدق: ماذا لو لم يكن درعي سوى خيال؟ ماذا لو كنتُ أنا من يفتح الباب … كل مرة؟
اسمي إبراهيم، وحدثت قصتي عندما كان عمري تسع عشرة سنة.
كان لي صديقان هما جياد ورحيم، وكانا أصغر مني قليلًا.
كنا نلتقي دائمًا برجالٍ أكبر منا سنًّا، بعضهم من كبار السن، نحكي معهم عن الغيبيات والجنّ وحكاياتهم.
وذات يوم، سمعت قصةً عن رجلٍ ذهب إلى الصحراء فمسّه جنٌّ، وصار ذلك الجني يتحدث على لسانه ويخبره عن الكنوز والدفائن القديمة.
تملكتني الفكرة حينها، وبدأت أتمنى أن يكون لي جنيٌّ خاص!
لكنّ الشباب الذين يتمنّون مثل هذا لا يعرفون خطورته، خاصة إذا كان الجنيّ كافرًا ماكرًا، من الذين يفسدون الإيمان ويُهلكون صاحبه بالتدريج حتى يموت على الكفر والضلال.
بدأت أبحث وأتحدث مع أصدقائي أكثر، نحاول أن نفهم لماذا يُصاب بعض الناس بالمسّ أو التلبّس.
واكتشفنا أن أغلبهم يدخلون أماكن مهجورة أو مقابر أو صحارى دون أن يذكروا اسم الله، فيتعرضون لإيذاء الجنّ.
ومن هنا قررنا، أنا وجياد ورحيم، أن نذهب بأنفسنا إلى الصحراء لنرى ما سيحدث.
ذهبنا ليلًا، حتى بلغت الساعة التاسعة أو العاشرة، ولم يحدث شيء سوى نسمة باردة هبّت فجأة، رغم أن الجو كان ساكنًا تمامًا، فاقشعرّت أجسادنا.
ثم سمعنا صوتًا غريبًا من بعيد، كلامًا غير مفهوم، فخرجنا من المكان، لا لأننا خفنا، بل لأننا لم نجد شيئًا واضحًا.
بعد فترة، خطر لنا أن نزور مقبرة قديمة مهجورة.
كانت بعيدة في الصحراء، فاستعرت سيارة صديقي رحيم، وانطلقت مع جياد عصرًا، ووعدت أمي أن أعود قبل التاسعة.
سرنا حتى بلغنا طريقًا رمليًا يبعد نحو خمسة كيلومترات عن الطريق العام، وهناك وجدنا المقبرة كما وُصفت لنا بالضبط.
كانت المقبرة موحشة، القبور مرتفعة وبعضها متهدم، وكأنها غرفٌ مبنية، وأثار الأقدام والسيارات تدلّ على أن أحدًا زارها من قبل.
ولاحظت أن بقايا الأسفلت المكسور تحيط بالمكان، وللمقبرة بابٌ حديديٌّ واحد، قديمٌ صدئ.
دخلنا ونحن نضحك بلا أذكار ولا صلاة.
كانت الشمس تغرب والظلام يزحف ببطء، وعندما اقتربتُ من أحد القبور الكبيرة رأيت عند بابه فتحة ضيقة، ومددت رأسي لأتأمل الداخل، فإذا بدرجٍ حجريٍّ ينزل إلى الأسفل…
ومن هنا بدأت الحكاية الحقيقية.
واصلنا السير داخل المقبرة ونحن في حالة ترددٍ وخوفٍ لا نبوح به.
مددت رأسي إلى داخل الفتحة مرة أخرى، فشعرت ببرودة غريبةٍ تلفّ المكان، ونظرت إلى جياد ورحيم، وكانا يحدّقان مثلي نحو الداخل، ومعنا مصباحان صغيران فقط.
أضأت أحدهما، فإذا بي أرى درجًا حجريًا ينزل إلى الأسفل، فقلت لهما:
– ما رأيكما؟ هل ننزل؟
اختلفنا في الرأي، أحدهم قال: “انزل أنت أولًا”، والآخر قال: “لا بأس، ننزل جميعًا”.
وبينما نحن نتجادل، مددت رأسي ثانيةً فرأيت وجهًا يطلّ من الظلام ينظر إليّ!
تراجعت مذعورًا، فقال لي أصدقائي:
– ربما تتوهم، لعلّك تخيّلت شيئًا، فالجنّ يمكن أن يتشكل، لكن لا داعي للخوف.
اقتربت من الباب ولمست الحديد بيدي، فشعرت كأن تيارًا كهربائيًا اخترق جسدي!
صرخت دون وعي، فهرع إليّ جياد ورحيم يسألانني عمّا أصابني.
قلت لهم وأنا أرتجف:
– لا أعلم… شعرت بصدمة قوية في يدي!
قالوا لي:
– يبدو أنك خفت.
لكن لم يكن خوفًا… بل شيء غريب، كأن الباب نفسه حيّ!
وما هي إلا لحظات حتى سمعنا صوتًا مكتومًا من الداخل، ثم انفتح الباب ببطء، وخرج منه رجلٌ غريب المظهر، يغطي التراب وجهه وملابسه، حتى حاجباه كانا كأنهما من تراب.
قال لنا بصوتٍ مبحوح:
– لا تخافوا، أنا إنسان، حارس المقبرة، أنظف القبور وأهتم بها.
لكنّ المنظر كان مرعبًا، فالمقبرة مهدّمة لا أثر فيها لأي اهتمام، والقبور نصفها منكسر.
حدّثنا الرجل قليلًا وهو يضحك ضحكةً غريبة وقال:
– هل تعرفون أنكم إذا دخلتم مثل هذه الأماكن في الليل، تلمسكم الجنّ؟
تبادلنا النظرات، وشعرت أن ملامحه بدأت تتغير.
ملابسه أصبحت أنظف فجأة، ووجهه بدا مختلفًا، كأنه شخص آخر.
تجمّدت في مكاني من الخوف، ورأيت التراب يعود ليغطي وجهه مرة أخرى، فقال صارخًا:
– ما بكم؟! لماذا تقفون؟! تحرّكوا!
قادنا نحو غرفةٍ صغيرة داخل المقبرة وقال:
– هذه غرفتي، أجلس فيها عندما أعمل هنا.
جلسنا مترددين، ثم خرج الرجل للحظة وعاد ومعه شمعة صغيرة.
قال لنا:
– ضعوها قربكم، فلا كهرباء هنا.
أشعلنا الشمعة، وكان ضوءها يرقص على الجدران المتهالكة، والمكان يزداد كآبة.
قلت لرفيقيَّ:
– يجب أن نغادر بعد قليل، هذا الرجل ليس طبيعيًا.
وفجأة… انعكس ضوء المصباح على الباب، فظهر من خلفه كلب أسود ضخم ينظر نحونا بعينين حمراوين!
تراجعنا في رعب، لكن رحيم قال:
– ربما تتوهم يا إبراهيم، لا يوجد شيء.
في تلك اللحظة، سمعنا صوت خطواتٍ قادمة، وصوت قطةٍ سوداء تقفز داخل الغرفة ثم تختفي.
ثم بدأ الباب يصدر صريرًا مزعجًا، وانفتح بعنف، وانطفأت الشمعة في اللحظة نفسها!
غرق المكان في ظلامٍ دامس، وأصبحت أضواء المصابيح غير قادرة على إنارة أي شيء، وكأن الضوء يُبتلع.
وفي ثوانٍ قليلة، رأيت وجهًا ضخمًا يطلّ من العتمة، وصرخةً اخترقت سكون الليل.
سقط جياد على ظهره، وانهار رحيم على وجهه، وأنا فقدت توازني وسقطت أرضًا فاقدًا للوعي.
استيقظت صباحًا على صوت رجلٍ يصرخ بي:
– من أنتم؟ وماذا تفعلون هنا؟
فتحت عيني فإذا به نفس الرجل الذي رأيناه ليلًا، لكن مظهره مختلف تمامًا!
نظيف الثياب، ملامحه بشرية هادئة، لا أثر للتراب على وجهه.
قال بقلق:
– سيارتكم في الخارج محطمة، ما الذي حدث؟
أخبرناه بكل ما جرى، فقال:
– أنا أعمل هنا فعلًا، آتي كل شهر لأنظف القبور، ربما رأيتم جنيًّا تشكّل على صورتي.
ثم تلا آياتٍ من القرآن وحلف بالله أنه بشر.
اطمأنّ قلبي قليلًا، وخرجنا من المكان، لكننا وجدنا السيارة محطمة والزجاج مكسورًا من كل الجهات.
قال لنا الرجل:
– اذهبوا إلى شيخ يقرأ عليكم، يبدو أنكم تعرضتم للمسّ.
وبالفعل، عدت إلى البيت خائفًا.
حين رآني والدي في الحديقة، شحب وجهه من منظر السيارة ومن لوني الأصفر الشاحب.
صرخ قائلًا:
– ما الذي حدث؟ أين كنت؟
قصصت عليه كل ما جرى، فأخذني فورًا إلى شيخٍ يقرأ القرآن، وقرأ علينا جميعًا.
لم تظهر علينا أعراضٌ واضحة، لكن منذ تلك الليلة بدأت أرى الكوابيس.
كنت أرى وجوهًا من ترابٍ تقترب مني في الظلام، وأسمع همساتٍ من المقبرة تناديني باسمي.
واستمرت الأحلام سبعة أيامٍ متتالية، حتى صرت أخاف النوم.



