تجارب مرعبة

حارس المقبرة وعزاء الجن

السلام عليكم ورحمة الله


كنت أعمل حفّار قبور في مقبرة القرية منذ صغري، ورثت المهنة عن أبي وجدي. لم تكن مهنة عادية، لكنها علمتني الصبر والتسليم بقضاء الله. طوال حياتي رأيت وجوهًا ميتة لا تُحصى، بعضها ينام بسلام وبعضها يحمل في ملامحه رعب اللحظات الأخيرة. لكن تلك الليلة… كانت بداية لعنة لم تنتهِ حتى الآن.

في ليلة معتمة من ليالي الشتاء، طرقوا باب بيتي قبل الفجر. كان رجلٌ غريب الملامح يحمل بين يديه شيئًا ملفوفًا في قماش أبيض. همس لي:
“هذا رضيع… مات قبل قليل. نريد دفنه بسرعة، من غير إعلان ولا صلاة جماعة.”

استغربت طلبه، لكنني لم أجادل كثيرًا. خرجت معه، وكانت الرياح تعصف بالمقبرة، وكأن الأرض تئن. حين فتحت القبر الصغير ووضعت الجثمان، لاحظت أن وجه الرضيع شديد البياض، وعينيه نصف مفتوحتين، كأنه ينظر إليّ. قلبي انقبض، لكنني تذكرت قول أبي: لا تنظر طويلًا في وجه الميت، فبعض النظرات تبقى فيك إلى آخر عمرك.”

غطيت التراب بسرعة، وأتممت الدفن، لكن شيئًا في داخلي قال إن هذا الطفل ليس عاديًا.

في الليلة التالية، مررت بجوار القبر، فوجدت فوقه وردًا أبيض ناصعًا لم يزرعه أحد. كان مشهدًا غريبًا، فالأرض باردة ومقفرة، ولا يمكن لزهرة أن تنبت بين ليلة وضحاها. حين اقتربت، شممت رائحة زكية، مختلفة عن أي عطر بشري.

ومنذ تلك الليلة، بدأت أسمع أصوات بكاء وأنين كلما جلست قرب نافذتي التي تطل على المقبرة. زوجتي كانت تنام بسلام، بينما أبقى وحدي أرتجف، أردد الأذكار وأحاول إقناع نفسي أن الأمر مجرد وهم.

بعد أيام، بدأت أرى من نافذتي أربع نسوة يأتين كل ليلة جمعة. يرتدين ثيابًا سوداء، ووجوههن مخفية خلف نقاب أسود سميك. كنّ يطفن حول قبر الرضيع، يرددن كلمات غامضة بلغة لم أفهمها. أحيانًا كانت أصواتهن تتحول إلى زغاريد حزينة، وأحيانًا إلى نواح طويل يشقّ صمت الليل.

وذات ليلة، سمعت إحداهن تقول:
هذا عهد، ومن ينكث العهد يُبتلى هو ونسله.”

ارتجفت قدماي، وعرفت أنني مهما حاولت الهروب، فإنني صرت جزءًا من أمر أكبر مني.

لم أحتمل البقاء متفرجًا. حملت مصحفي وخرجت إليهن. وقفت على بعد أمتار أرتل آيات، فتوقفن عن الدوران ونظرن إليّ دفعة واحدة. شعرت كأن بصري يغرق في ظلام عيونهن، لكنني تمسكت بالقراءة.

اقتربت واحدة منهن، رفعت نقابها قليلًا، فإذا بوجهها شاحب أبيض، تتخلله عروق زرقاء، وعيونها تتوهج بلون أحمر كالجمر. قالت بصوت كأنه يخرج من بطن الأرض:
حفّار… أنت لست غريبًا عن هذا العهد. أنت من دفنت الجسد، والآن أنت جزء من السر.”

صرخت: “أي سر؟! هذا طفل بريء، وأنا دفنته كما أمر الشرع.”
فأجابت الأخرى: “ذلك الرضيع لم يكن من عالمكم وحده. إنما وُضع بينكم أمانة، وعهدًا سيمتد إلى ذريتك.”

وفجأة، انطلق من تحت التراب صوت بكاء رضيع حيّ، صرخاته اخترقت الليل حتى سمعتها زوجتي من البيت، تصيح باسمي مذعورة.

من بين النسوة، ظهرت عجوز تعرفها القرية باسم “يامنة”، امرأة غامضة يقولون إنها تعرف أسرار الجن. اقتربت وقالت لي:
اصبر يا حسين… إنك لم تخطئ، لكنك ابتُليت. سيُفتح لك باب لم يفتح لغيرك، سترى ما لم تره عين بشر. فإن ثبُت، سترى رحمة الله، وإن ضعفت… فويل لك ولأهلك.”

ثم تلاشى الجمع كما يتلاشى الدخان، وبقيت وحدي في المقبرة، أرتجف، وصوت البكاء لا يزال في أذني.

منذ تلك الليلة، لم يعد بيتي كما كان. زوجتي بدأت ترى كوابيس متكررة، تسمع أصوات أطفال يبكون عند الفجر. الأبواب تغلق وتفتح وحدها، والماء في جرار المطبخ يتحول فجأة إلى عكر كأن فيه دماء.

كنت أحاول إخفاء الأمر عن الناس، لكنني صرت أضعف يومًا بعد يوم. زوجتي بدأت تحس بثقل غريب في بطنها، مع أنها لم تكن حاملًا بعد. قالت لي بصوت مرتجف:
“حسين… أشعر أن في أحشائي شيئًا يتحرك، لكن الأطباء يقولون لا شيء.”

أدركت حينها أن ما جرى في المقبرة بدأ يتسلل إلى بيتنا.

بعد شهور قليلة، سقطت زوجتي في الأرض تصرخ من ألم شديد. أحضرت القابلة، وفوجئت بأنها في حالة ولادة! كيف؟ لم يكن هناك أي حمل ظاهر، ولم يمض الوقت الكافي.

صرخت القابلة: “يا حسين، هذا أمر غريب… الطفل يخرج، لكني لا أرى دمًا ولا ألمًا كعادة النساء!”

وضعت زوجتي رضيعًا شديد البياض، له عينان تلمعان كأنهما تعرفان الدنيا قبل أن يفتح فمه. ما إن رأيته حتى شعرت أني أراه للمرة الثانية… هو نفس الطفل الذي دفنته في المقبرة!

زوجتي أغمي عليها، بينما الرضيع نظر إليّ نظرة حادة، وابتسم!

في الليلة التالية، ظهرت النسوة الأربع عند باب بيتي. لم يراهن غيري، لكن أصواتهن ملأت أذني. قالت إحداهن:
لقد وُلد من جديد. ذلك عهد بين عالمنا وعالمكم. لقد اخترناك يا حسين لتكون الحارس.”

صرخت بهلع: “أي حارس؟! هذا بيتي وزوجتي وطفلي، ماذا تريدون منّا؟!”
فأجابت العجوز يامنة: “ذلك الطفل ليس لك وحدك، إنه ابن العالمين. إن فرطت فيه، هلكت، وإن حفظته، فتحت لك أبواب لم تُفتح لغيرك.”

شعرت أن الأرض تدور بي، وصوت الرضيع يبكي بقوة، لكن بكاءه لم يكن عاديًا، بل كأنه مزيج بين صراخ طفل وهمهمة رجل عجوز.

مرت أيام وأنا في حيرة لا تنتهي. الرضيع كان ينمو بسرعة غير طبيعية، ففي أسبوع أصبح كأنه طفل في شهر، وفي شهر صار كأنه ابن سنة. عيناه لا تفارقانني، وكأنه يقرأ أفكاري.

كل ليلة أسمع صوتًا داخلي يقول: لقد صار العهد في دمك… وفي دم ذريتك.”

كنت أقرأ القرآن وأبكي، لكني في داخلي أيقنت أن ما يجري أكبر من قدرتي.


وهكذا، بدأ ابتلائي الحقيقي. لم يعد الأمر مجرد دفن رضيع، بل صار عهدًا غامضًا ربط مصيري ومصير ذريتي بعالم آخر.

الرضيع الذي ولدته زوجتي لم يكن ابنًا عاديًا، بل هو نفس الذي دفنته بيدي، عاد للحياة بطريقة لا يصدقها عقل. وكلما كبر يومًا، ازداد يقيني أن السر سيُكشف كاملًا… لكن الثمن سيكون فادحًا.

ولم يكن أمامي سوى الانتظار… وانتظار ما هو أشد.


مقالات ذات صلة

4 تعليقات

  1. القصة كانت في البداية جميلة جداً لكن أشعر أن أحداثها غير مكتملة. بهاأجزاء مفقودة وأحداث مكررة نصياً لا أعلم هل هذا خطأ غير مقصود مثلاً أو ما شابه.. لا أدري..

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

You cannot copy content of this page

arArabic

أنت تستخدم إضافة Adblock

الرجاء اغلاق حاجب الاعلانات