تجارب مرعبة

بين الظلام والسحر: قصة حقل الذرة

“من أرض الذرة إلى ظلال الماضي المظلم”
في زوايا قرية كفر السنابسة النائية، حيث تتلاقى حقول الذرة مع ظلال الليل الطويلة، تختبئ أسرار لا يجرؤ أحد على الاقتراب منها. هناك، بين صدى الرياح وهمسات الماضي، تعيش عوالم الماورائيات، حيث السحر يختبئ في كل زاوية، والقدَر ينسج خيوطه بين قلوب البشر.

كل بيت مهجور يخبئ قصة، وكل خطوة في الظلام قد تكشف عن قوى لا يراها سوى أولئك الذين خاضوا المواجهة. هذا هو عالم منصور، حيث يلتقي الماضي بالغموض، وحيث يكشف السحر عن نفسه بطرق غير متوقعة، لتكشف أسرار العائلة، والخيانات، واللعنات التي ظلت صامتة لسنوات طويلة.

منصور يقول إنه من سكان قرية كفر السنابسة في محافظة المنوفية، عمره 26 سنة، متزوج وله ثلاثة أولاد. في عام 2021 كان يزرع في حقل الذرة الذي ورثه من والده، وهو مزارع بسيط رزقه الله ميراثًا متأخرًا بعد وفاة والده.

للتوضيح، الرجل الذي كان منصور يناديه “والده” هو في الواقع جده محمود. والده الحقيقي كان مزارعًا يساعد جده في زراعة الذرة، وكان وحيدًا بلا إخوة أو أخوات، ومرّت سنوات طويلة دون أن يُرزق بذرية. نوى والده الحقيقي أن يتزوج مرة ثانية لينجب، وهذا حقه، لكن خبر النية أثار رد فعل جارحًا من زوجته الأولى (جدته في الحقيقة).

عندما سمع أهل القرية نبأ خطبة والده على أخرى، صارت جدته تتكلم بسوء عن ابنتها (أم منصور)، وترددت عبارات جارحة حول أن ابنتها جلبت العار. هذا الضغط النفسي دفع الأم إلى محاولة إنهاء حياتها، لكن والده أنقذها فنجت بفضل الله. المفاجأة كانت خبر حملها، فتم فسخ خطبة المرأة الأخرى وعادت الحياة طبيعية، وفرحت العائلة بمولودهم الجديد.

بعد مرور عام تقريبًا على ولادة منصور، ظهر كراهية وصراعات بين والديه لم يُدْرَك سببها. تدخل جده محمود وظن أن وراء ذلك سحرًا، فأحضَر شيخًا كشف وجود سحر في المكان لكنه امتنع عن ذكر من فَعَلَ ذلك. أصر جده حتى اضطر الشيخ لأن يترك الأمر دون إفصاح، فبحث جده عن طريقة لمعرفة الفاعل.

علم جده من أحد معارفه بأن وضع سحر داخل جلد حيوان وحرقه يؤدي إلى ظهور اسم من فعل السحر على الجلد. نفذ جده هذه الطريقة في نفس الغرفة التي احتوى فيها السحر، وكتب الاسم على جلد الحيوان بسبب النار. لكن طريقة فك السحر انقلبت إلى كارثة؛ فقد بدلاً من أن تنتهي الخلافات، اشتعلت النار في غرفة والدي منصور، وصُدِم أهل القرية بصراخ والديه اللذين احترقا داخل الغرفة وماتا دون أن يفهم أحد السبب.

بعد الحادث تكفَّل جده محمود برعاية منصور، وكبر معه وهو دائم القول إنه السبب لأنه طرد الشيخ وفك السحر بطريقة خاطئة. ذكر جده أيضًا أن من فعل السحر كانت خطيبة والده السابقة، وأن اسمها كُتب على جلد الحيوان، وأنها ماتت قبل وفاة جده.

ورث منصور من جده كل الأملاك والمزارع ومنزل والده المهجور الذي وقعت فيه الكارثة قبل سنوات طويلة، وكان ذلك المنزل بالقرب من إحدى مزارع الذرة. في عام 2021 قرر منصور زيارة أرض المزرعة بعد صلاة الفجر، وتذكّر قصة والده والمنزل المهجور فقرر أن يزوره قبل توجهه إلى الحقل.

سار في طريق ترابي يمر بين حقول الذرة والبساتين وسط ظلام الفجر. عندما وصل إلى أرض المزرعة ووقف أمام بيت العائلة المهجور، شعر بظلام غريب داخل الظلام نفسه؛ ظلامٌ أعظم من ظلام الليل العادي. كلما اقترب من البيت ازداد الظلام حتى كاد لا يرى الأرض تحت قدميه. تذكر قصة السحر وأراد الوصول إلى باب البيت ثم العودة، فأخرج هاتفه ليضيء طريقه.

فجأة شعر بضربة قوية على يده التي تمسك الهاتف، طار الهاتف وسقط، وشعر بألم شديد. تجمد من الخوف وبدأ يسمع نباح عشرات الكلاب بعنف قادمة من جهة البيت وكأنها تهاجمه. ثم سمع صوت رجل كبير يأمره: “ارحل، ارجع للخلف، لا تقترب يا منصور”. تراجع ببطء حتى وصل إلى مدخل المزرعة، واختفى نباح الكلاب. لاحظ أثر الضربة ونزيفًا في يده، ووجد هاتفه مكسرًا على مسافة أمتار لكنه ما زال يعمل.

اكتشف بعد أيام أن أحد أصابعه مكسور وأن هناك أثر تلف في عظام اليد من شدة الضربة، فبقى في البيت أيامًا للعلاج. بعد شهر عاد نهارًا إلى المزرعة ودخل من طريق جانبي، ولم يسمع أي نباح أو يرى شيئًا غريبًا؛ كان البيت مجرد بيت مهجور كما هو. ظن أن ما حدث كان هلوسة أو أثرًا نفسيًا فغادر ليتفقد الحقل.

حين عاد عند الغروب من نفس الطريق لمحاولة التثبت، لمح امرأة مسنة جالسة أمام باب البيت تدفن شيئًا ثم تنثر التراب على الطريق المؤدي إلى البيت. عرفها لأنها من أهل القرية، فراح المخاطرة بحضور شيخ للتحقق مما تفعل. في الصباح أحضر الشيخ، وتبين أن المرأة كانت تدفن سحرًا حقًا.

ذهب الشيخ لمنزل المرأة، فوجدها تعيش وحيدة ويتكفل أهل القرية برعايتها. سألها منصور لماذا تدفن سحرًا أمام بيت عائلته، فأجابت بهدوء أن سبب فعلها يعود إلى خطبة جرت قبل سنوات بين والد منصور وهذه المرأة، وأن خطبتها فسخت ما أدَّى إلى تدمير سمعتها وحياتها. تقول المرأة إن أهل القرية تحدثوا عنها بسوء وظلموها، وأنها لم تنس ذلك.

اعتبرت المرأة أن وضع السحر في بيت منصور هو انتقام من جده محمود الذي تسبّب لها في فقد خطبتها وسمعتها. زعمت أن الساحرة التي استعانت بها كانت نفسها التي ذهبت إليها والدة منصور لتساعدها على الحمل، وأن هذه الساحرة أعطت أمورًا أدت إلى وجود جن عاشق تمسك بالأم وأسهم في تفكك العائلة. بهذه الرواية تكتمل صورة الانتقام والسحر والخسارة التي عصفت بعائلة منصور

بأنه يفرّق بين الزوجة وزوجها لأنه جنيٌّ عاشق، أمّا الأعشاب فكانت ـ بإذن الله تعالى ـ السبب في حمل الزوجة. ولما قام جدّك محمود بإحراق السحر، كان ذلك قرارًا خاطئًا، لأن فكّ السحر له طريقة محددة، وليس بإحراقه. ومع ذلك، اتهمني بالسحر رغم أنني كنت بريئة ومظلومة.

حتى اليوم الذي ألقيت فيه سحرًا عند باب بيت والدك، لم يكن هدفي إلا أن أمنع جدّك من الاقتراب منه، ولم أكن أعلم أنه قد توفي إلا بعد حديثك معي. ويشهد الله أنني بريئة من كل شيء آخر، وأنني مظلومة.

قال منصور: كنت مصدومًا، فسألت المرأة عن دليل يثبت صحة كلامها. وبالفعل، أخذتني إلى الساحرة التي شهدت بالحق لصالح هذه المرأة المظلومة. ولكن بما أنني لا أُصدّق كلام السحرة، بدأت أبحث عن أدلة أخرى. وبالفعل وجدت ما يثبت كلامها، وتبيّن أنها كانت مظلومة، وأن جدّي محمود هو من اتهمها ظلمًا، لا أكثر ولا أقل.

وكانت المصيبة الأكبر أن جدّي محمود ندم على فعله، ولكن للأسف لم يُبدِ ندمه إلا كتابةً على ورقة أو مذكرات وُجدت داخل بيت والدي، يعترف فيها بأنه السبب في وفاتهم أساسًا. فلو لم يُحرق السحر بطريقة خاطئة، لما حدث ما حدث.

ولكي يبعد الشبهة عن نفسه، اتهم تلك المسكينة ظلمًا. وكل ذلك كان مكتوبًا في تلك المذكرات. وهكذا تبيّن أن المرأة بريئة، وأن جدّي محمود هو السبب في احتراق والدي ووالدتي.

أما من وضعت السحر داخل الغرفة، فكانت والدتي من الأساس! وكان ذلك صادمًا جدًا، لأن كل ما كنت أعرفه لم يكن سوى وهمٍ سمعته من جدّي.

قلتُ لتلك المرأة المظلومة: «ليس بيدي سوى أن أعوّضك عن الأذى الذي سببه لك والدي وجدّي»، فعرضتُ عليها أن أمنحها حصة من المال الذي ورثته عنهما. لكنها رفضت لأنها كانت امرأة كريمة النفس، مظلومة بحق. وقالت: «ما دام جدّك قد مات، فلم يعد بيني وبينكم شيء. والدك توفي وجدّك توفي، وهما السبب في شقائي، وقد تدمرت حياتي ولم يبقَ في عمري شيء».

لكن بعد إصراري الشديد، وافقت أخيرًا، ونقلتُ إليها حصة من الأملاك تعادل نصيبها لو كانت زوجةً لوالدي، واعتبرتها بمثابة زوجة والدي وأمي الثانية بحكم عمرها، ورغبةً مني في إعادة الحق وإنهاء الظلم.

وفي أحد أيام الجمعة، وأثناء تجمع أهل القرية، وقفتُ في وسط الحي وبدأت أروي لهم ما حدث باختصار: أن امرأة ظُلمت من قِبل والدي وجدّي طوال تلك السنوات، وأنها بريئة من السحر وكل ما قيل عنها، وقد عرضتُ عليهم المذكرات التي كتبها جدّي لتكون دليلًا على براءتها.

تفاجأ الناس من كلامي، وخلال الأيام التالية تغيّرت نظرتهم إليها تمامًا، وأصبحوا يذكرون تلك الحادثة حتى يومنا هذا.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

تحقق أيضا
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى
ممنوع نسخ النصوص!
arArabic

أنت تستخدم إضافة Adblock

الرجاء اغلاق حاجب الاعلانات