تجارب مرعبة

بوابة الجن رحلة جلال نحو المجهول

بقلم:ابراهيم سالم

اسمي جلال وهذه حكايتي مع عالم لم أكن أظن يوماً أن أقترب منه، عالم الجن، والقصة الغريبة مع الجنية التي اعترضت طريقي صدفة عابرة لكنها جرتني بعدها إلى

أمور ما كنت أتخيل أنني سأعيشها. لن أدّعي أنني كنت من أولئك الذين ينكرون وجود الجن أو يكذبون العوالم الغيبية، على العكس كنت أؤمن بها إيماناً تاماً. سمعت الكثير من الحكايات من أصدقاء وأقارب، قصصاً عن الظلال التي تظهر ليلاً، وعن أصوات تصمع ثم تختفي، وعن منازل هجرها أهلها خوفاً من شيء لا يرى. كنت أسمعها فأهز رأسي باهتمام، لكنني لم أتوقع للحظة أن يكون لي نصيب من هذه العوالم أو أن يُفتح لي باب منها دون قصد.

كانت حياتي هادئة طبيعية إلى حد الملل، تجاوزت الثلاثين بقليل، متزوج زواجاً تقليدياً من إحدى قريباتي، نعيش معاً في ضواحي المدينة في منزل بسيط تحيط به أشجار التين والزيتون.

أسترزق من محل صغير لبيع البخور والأعشاب والبهارات، عملاً ورثته عن والدي وصار جزءاً من حياتي اليومية. كنت معروفاً بين الناس بحب العمل وصدق البيع. أخرج من بيتي مع أول خيط للفجر، أقود السيارة القديمة عبر الطريق الهادئة الخالية متوجهاً إلى محلي قبل أن يفتح الجيران أبوابهم، ولا أغلق باب المحل إلا إذا غابت الشمس تماماً، ثم أعود إلى بيتي منهكاً، أتناول عشائي بصمت وأخلد للنوم. وهكذا كانت أيامي تتكرر بلا تغيير، بلا حدث يوقظ القلب أو يهز الروح.

لكن في ذلك اليوم كسر الروتين بطريقة لم أتوقعها، يوم واحد

فقط قلب ما بعده وغير مجرى حياتي أكثر مما كنت أظن، وألقى بي في طريق لم أعد أعرف أين ينتهي. وكما يحدث دائماً في مثل هذه الأمور، لا تأتي إلا بغتة، في لحظة عابرة لا يتوقعها المرء. كان يومي عادياً تماماً، أنهيت عملي وأغلقت باب المحل بعد المغيب كالعادة، ثم انطلقت بسيارتي

متوجهاً نحو البيت. وكعادتي كنت أقود ببطء فحالة الطريق لا تسمح بغير ذلك؛ الطريق ريفي قديم، أكلت أطرافه السنين واحتلت الحفر معظم أجزائه، ومع الظلام الذي يبتلع ما أمامه تصبح السير فوقه مغامرة في حد ذاتها، لذلك لم يكن أمامي إلا القيادة بحذر شديد، وعيني تتنقلان بين الطريق والمرايا كمن يخشى أن يفوته خطر قادم.

كان كل شيء هادئاً طبيعياً إلى حد الطمأنينة، وقد اقتربت من منزلي حين وقع بصري على شيء أربكني قبل أن أدري ما هو؛ كانت واقفة على جانب الطريق فتاة ترعى قطيعاً من المعز. عند ذلك الوقت من الليل، شدني المشهد بقوة، جعلني أضغط على الفرامل دون تفكير فتوقفت السيارة فجأة، بقيت أحدق عبر الزجاج لأتأكد مما أرى، فتاة طرع في هذا الوقت في منتصف الظلام، وحده غريب، لكن ما زاد غرابتي أكثر هيئتها؛ كانت ترتدي ملابس خفيفة جداً لا تناسب هذا الفصل من العام على الإطلاق. كنا في أيام شتوية قاسية، والبرد فيها يقرص العظم، ومع ذلك بدت هي وكأنها لا تشعر بشيء. ثم أضاء القمر الباهت وجهها، فاذ بها جمال يجرح المشاعر،

جمال حاد يجعل القلب الميت ينبض من جديد، شعر أسود غزير ينساب وراء كتفيها، وملامح شفافة كأنها خلقت من ضوء الليل نفسه. لم أتمالك بصري عنها، بقيت أحدق دون أن أقدر على صرف عيني، حتى رفعت رأسها نحوي، حدقت بي بتعجب غريب، ثم خطت نحوي خطوات قليلة، خطوات خفيفة كأنها لا تلامس الأرض.

وفي تلك اللحظة ظهر الشيء الذي جعل قلبي يهبط داخل الصدر كصخرة على رأسها، ظهر قرنان أسودان يلمعان تحت ضوء القمر كحدين سكاكين، تجمدت لثانية واحدة فقد شعرت أن الزمن توقف. حاول عقلي استيعاب ما أراه، هل هو وهم؟ هل هو ظلام يلعب بي؟ هل أنا متعب؟ لكن قبل أن يكتمل التفكير تحرك جسدي من تلقاء نفسه، فقدت على دواسة الوقود بكل قوتي، فانطلقت سيارتي بأقصى سرعة تستطيعها. كان شيئاً يطاردني من الخلف، عدت إلى بيتي سالماً، لم يحدث شيء بعد أن هربت، لكن قلبي لم يهدأ، بقيت

كأنني أركض رغم أنني في فراشي. لم أستطع نزع صورتها من رأسي، تلك الفتاة، أو لنقل تلك الجنية، إن كان ما رأيته حقيقة لا وهم، ظل وجهها يلاحقني طوال الليل، وكانت ثواني رؤيتي لها امتدت في داخلي إلى ساعات. لم يكن جمالها وحده ما شدني، بل الموقف نفسه، تلك اللحظة التي شعرت فيها أن شيئاً ما فتح الباب بين عالمي الهادئ وعالم آخر لا يشبه أي شيء عرفته سابقاً.

كانت حياتي محكومة بالعادات: لا جديد، لا مفاجآت، لا نبض، لكن ظهورها كسر شيئاً عميقاً داخلي، شعرت وكأن القيود التي حبستني سنوات طويلة قد انكسرت فجأة، وأنني لو لحظة تنفذت شيئاً يشبه الحرية أو الخطر أو كليهما معاً. وصل الأمر أن صرت ألوم نفسي: لماذا هربت؟ لماذا لم أقف؟ لم أتحدث إليها؟ هل كنت سأسمع صوتها؟ هل كانت ستقترب أكثر؟ وهل يمكن أن تتاح لي فرصة أخرى لألمس ذلك العالم الغامض الذي لطالما سمعت عنه؟ لكنني لم أجرب يوماً الاقتراب منه. تقلبت بين أفكاري حتى طلع الفجر، وحين سمعت الأذان يتردد في الأفق هممت بالنهوض للذهاب إلى عملي، لكن لأول مرة منذ سنوات طويلة لم أشعر بأي رغبة في

فتح المحل. أغمضت عيني من جديد واستسلمت للنوم، لم أستيقظ إلا بعد الظهر. كان ذلك اليوم غريباً على الجميع، الناس رأوا المحل مغلقاً إلى منتصف النهار، وهو أمر لم يحدث منذ أن عرفوني. أغلبهم ظن أنني مريض أو أن مكروهاً أصابني، لكنني لم أكن منتبهاً لأحد، ولم يكن يهمني ما يقولونه، كنت أنتظر شيئاً واحداً فقط: المغيب، أنتظره بفارغ الصبر كي أغلق المحل وأعود إلى الطريق ذاته، علني أراها من جديد، علّ تلك الجنية تعترض طريقي مرة أخرى. وما أن غابت الشمس خلف البيوت البعيدة حتى شعرت بقلبي يسبق خطواتي.

أغلقت محلي على حشْن لم أعتده من نفسي قط، وكأني رجل يفر نحو مصيره لا منه. حملت مفاتيحي وانطلقت بسيارتي في الطريق الريفي ذاته، الطريق الذي صار يحمل في داخله شيئاً يشبه الوعد أو الهوس. كنت أقود وأنا أقلب عيني في كل زاوية، في كل ظل، في كل فجوة بين الأشجار، أراقب الحقول، أطراف الطريق، الشجيرات المتناثرة، أبحث عنها كما يبحث الغريق عن نفس آخر، لكن لم يكن هناك أثر، لا حركة، لا صوت، لا شيء. استمر قلقي يتصاعد كلما ابتعدت الشمس أكثر وكلما ازدادت عتمة السماء.

وحين وصلت إلى المكان نفسه الذي ظهرت فيه ليلة البارحة، توقفت، أوقفت السيارة ببطء، كأني أخشى أن أوقظ شيئاً نائماً تحت التراب. بقيت جالساً لثوانٍ، أتنفس بعمق، أراقب الطريق الفارغ أمامي، ثم مددت يدي إلى مقبض الباب وفتحته، نزلت، هبت علي موجة هواء بارد هزت جسدي كله. كانت الريح تعصف بالمكان، تمر بين الأشجار اليابسة، وتصدر أصواتاً تشبه الهمس، همساً غريباً كأنه كلام تمسحه الريح. قبل أن أفهمه، لففت يدي حول معطفي وخرجت من الطريق متقدماً خطوة بعد أخرى نحو البقعة التي رأيتها فيها بالأمس.

الأرض هناك كانت أكثر رطوبة، ورائحة الطين ممزوجة بنسيم الشتاء، ولهذا شعرت بأن المكان ما يزال يحمل شيئاً من أثرها، ظن لا دليل عليه، لكنه كان يلاحقني. وقفت في النقطة نفسها، حدقت طويلاً إلى الأرض، إلى الشجيرات الصغيرة، إلى الظلال التي تتراقص مع الريح، لكن لا أثر لها، لا خيال، لا قطيع، لا حركة، خيبة غامضة وخوف خفيف اختلط بداخلي، وبدأت أشعر أنني ربما كنت أطارد وهماً أو جنية لا تريد أن ترى مرتين.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

تحقق أيضا
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى
ممنوع نسخ النصوص!
arArabic

أنت تستخدم إضافة Adblock

الرجاء اغلاق حاجب الاعلانات