عقد لا يشهده بشر


بقلم:القارئ المرن
لم يكن عمر الشاب يوسف يتجاوز الحادية والثلاثين، ولكنه كان يشعر كأن الدهر كله قد انحنى على كتفيه بثقله، يجرّه إلى قاع حياةٍ فقيرةٍ قاسيةٍ لا رحمة فيها. كان يوسف يعيش في طرف قريةٍ صغيرةٍ تحيطها الجبال والأودية، بيتُه من الطين، سقفه يرشح ماءً كلما هطلت السماء مطرًا، وأرضه تضيق بأحلامٍ لم يملك لها ثمنًا ولا سبيلًا.
كان فقيرًا، لم يستطع الزواج، وكلما فكر في الأمر، شعر كأنما يطعن صدره بسكين. فقد كان يحلم بزوجةٍ وبيتٍ صغير يملؤه الدفء، لكنه كان يتيقن دائمًا أن فقره سدٌّ منيع بينه وبين أي حياة طبيعية. كانت الفتيات في القرية يرفضنه دون أن يسألن عن قلبه أو دينه، فكأنما الفقر لعنة تمحو كل فضيلة.
ولكي يهرب من قسوة واقعه، اعتاد يوسف أن يخرج بعد صلاة العصر متجهًا نحو وادٍ قريبٍ من القرية. هناك، بين الأشجار العتيقة والصخور السوداء، كان يجد سكينته. كان يجلس عند صخرة كبيرة مطلة على جدول ماء صغير، يقرأ القرآن بصوت رخيم أو يرفع الأذان بصوتٍ يأسر حتى الطيور. وكان يغمض عينيه ليشعر أن صدى صوته يرتفع في السماء، فيعيد إلى قلبه قليلًا من الطمأنينة.
غير أن شيئًا غريبًا بدأ يلاحظه في الأيام الأخيرة: كلما تلا القرآن أو رفع الأذان في ذلك المكان، انبعثت في الهواء رائحة مسك ممزوجة بعود، متجانسة إلى حدٍّ لا يخطئه أنف. كانت رائحة تبعث في روحه هدوءًا عجيبًا، حتى كأن صدره يمتلئ بأنفاسٍ من الجنة.
في البداية ظنّ أن أحد الرعاة قد مرَّ بالمكان وهو يتعطر، أو أن الرياح حملت الرائحة من بعيد. لكنه سرعان ما تيقن أن الأمر يتكرر فقط حين يقرأ القرآن، وكأن تلاوته هي التي تستدعي هذا العطر.
في ليلةٍ من الليالي، وبينما أرهقه التفكير بالفقر والحرمان، غلبه النوم فرأى حلمًا غريبًا: فتاة فائقة الجمال، ترتدي ثوبًا أبيض واسعًا، يحيطها نورٌ خافتٌ يبعث الطمأنينة في قلبه. كانت تقف وسط بستان أخضر لم يعرف له مثيل. ابتسمت له وقالت بصوتٍ هادئ:
“يا يوسف… لا تحزن، فإن الله لا ينسى عباده.”
اقتربت منه، ثم تابعت بصوتٍ حنون:
“لقد أعجبني إيمانك وصوتك حين تتلو القرآن، وأريد أن أكون لك زوجة ما دمتَ على عهد الله.”
استيقظ يوسف فزعًا، وقلبه يخفق. جلس يفرك عينيه وهو يتمتم:
“مجرد حلم… ربما بسبب شدة رغبتي بالزواج.”
ولكن الحلم تكرر، وتكرر معه ظهور الفتاة ذاتها، حتى حفظ ملامحها كأنها امرأة من لحم ودم.
صار يوسف في حيرة من أمره. أهذا من أوهام قلبه التائق؟ أم أن وراء الأمر سرًا؟ حاول أن يقنع نفسه بأنه مجرد خيال، لكن الأحداث من حوله كانت تزيده حيرة.
فقد بدأ يسمع في المنام، ثم في اليقظة أحيانًا، صوت الفتاة نفسها تهمس باسمه:
“يوسف… يوسف…”
وكانت الرائحة العطرة تظهر في كل مرة يذهب فيها إلى واديه، حتى لو لم يقرأ بصوتٍ عالٍ. كان يشعر أن المكان امتلأ بحضورٍ غير مرئي، حضورٍ يراقبه ويقترب منه شيئًا فشيئًا.
زاد خوفه، لكنه لم يستطع أن يمنع نفسه من العودة إلى الوادي. كان يذهب كل يومين تقريبًا، وكأن قوة خفية تدفعه إلى هناك.
وذات مساء، بعد أن فرغ من تلاوة سورة الرحمن بصوتٍ خاشع، أحس فجأة ببرودة لطيفة تمر على وجهه، ثم لمح عند طرف الوادي خيالًا شفافًا يشبه ملامح تلك الفتاة التي يراها في المنام. لم يدم المشهد سوى لحظة، ثم تلاشى، تاركًا خلفه رائحة المسك والعود أقوى من أي وقتٍ مضى.
ارتجف يوسف وهو يتمتم:
“أعوذ بالله من الشيطان الرجيم… إن كان في هذا خير فاجعله خيرًا يا رب، وإن كان شرًا فادفعه عني.”
لكن قلبه لم يعرف سوى الانجذاب، لا النفور.
في تلك الليلة، جاءه الحلم أوضح من أي مرة سابقة. رأى نفسه في قاعةٍ مضيئة بالأنوار، وفيها رجال ونساء ملامحهم نورانية. تقدمت الفتاة وقالت:
“أنا سلمى، من قومٍ مسلمين من الجن، نعيش في هذا الوادي منذ مئات السنين. استمعنا لصوتك في القرآن، وامتلأت قلوبنا نورًا من تلاوتك. لقد اخترتك زوجًا بإذن الله، إن شئت.”
أطرق يوسف برأسه وقال:
“ولكن… أنا بشر، وأنتِ من الجن… كيف يكون هذا؟ وكيف يعيش الإنسان مع الجان؟”
ابتسمت وقالت:
“لسنا شياطين ولا كفارًا، بل مسلمون مؤمنون. الزواج بيننا ممكن بإذن الله، إن كان قلبك صادقًا. سنكون سترًا لك وملجأ، ولن يؤذيك منا أحد. اجعل نيتك لله، وستجدني عندك ما دمت حيًا.”
ثم اقترب أحد الرجال منهم، كأنه شيخ وقور من قومها، وقال بصوتٍ مطمئن:
“يا يوسف، هذه أمانة، فإن قبلت كان عقدًا بيننا، وإن رفضت فأنت في حل.”
استيقظ يوسف وهو يغرق في العرق. قلبه لم يعد يعرف الطمأنينة.
لم يعد يوسف كما كان. صار أكثر انعزالًا، يخرج للوادي يوميًا تقريبًا. كان يشعر أنه يعيش بين عالمين: عالم القرية الفقير القاسي، وعالم الوادي المليء بالسكينة والعطر والأحلام الغامضة.
بدأت تتفتح أمامه أبواب رزق لم يتوقعها: رجل من القرية عرض عليه عملًا جديدًا بأجر جيد، ثم جاءه شخص غريب يعرض شراء بعض منتجات بسيطة من أرضه بسعر عالٍ. وكأن يدًا خفية تزيح عنه بعض ثقل الفقر.
لكنه في داخله كان يعيش صراعًا أعمق: هل تزوج فعلًا في عالم غيبي لا يراه؟ أم أن كل ما يحدث مجرد انعكاس لرغباته وأوهامه؟
ذات مساء، جلس يوسف في الوادي يتلو القرآن، فإذا بالصوت الذي اعتاد أن يسمعه يجيبه بوضوح، يقرأ الآيات معه في انسجامٍ عجيب. شعر بدموعه تنهمر، وارتجف قلبه بفرحٍ وخوف.
ثم جاءه الصوت يقول:
“يا يوسف… أنا معك، ما دمت تذكر الله. لا تبحث عن دليلٍ لبشريتك، فإن الحب والإيمان أوسع من أن تحصرهما بين عالمٍ وعالم. عش بقلبك، وستعرف أنني حقيقة لا خيال.”
لم يرَ الفتاة بعينيه رؤية واضحة، لكنه أحس بها قربه، كأنها تضع يدها على قلبه.
مضت الشهور، وأهل القرية لاحظوا أن يوسف تغير. صار أكثر هدوءًا وإشراقًا، وكأن على وجهه نورًا خفيًا. سمعوه أكثر من مرة يبتسم وهو وحيد، أو يحدّث نفسه بصوتٍ منخفض. بعضهم قال: “لقد جنّ يوسف.”، وبعضهم قال: “لقد رضي الله عنه.”
أما يوسف نفسه، فكان يعيش بين يقينٍ وظن، بين حلمٍ وواقع. لم يستطع أن يقطع إن كانت سلمى زوجته حقًا من عالم الجن، أم أنها كانت انعكاسًا لرغبات قلبه المحروم. كل ما يعرفه أنه لم يعد يشعر بالوحدة قط، وأن رائحة المسك والعود ما زالت تملأ الوادي كلما قرأ القرآن.
وفي إحدى الليالي، جلس عند صخرته المعتادة، رفع الأذان بصوته الرخيم، ثم ابتسم وقال في نفسه:
“إن كنتِ حلمًا، فأنتِ أجمل أحلامي… وإن كنتِ حقيقة، فالحمد لله الذي جمعني بك.”
ثم أغلق عينيه، وترك للوادي صدى صوته، وللقارئ سؤالًا لا جواب له:
هل كان زواج يوسف من الجنية حقيقة، أم مجرد وهمٍ نسجه الفقر والحرمان؟