اعترفات ساحر قديم


بقلم: ابراهيم الزيدي
اسمي محسن، وعمري الآن تسعة وعشرون عاماً، ومن مدينة الحسيمة. أخي وُلد بالتبنّي، أما أنا فقد ربّتني امرأة وزوجها: أمي السعدية وأبي محمد. هما أول من فتحتُ عينيّ عليهما. لم أعد أسأل عن والديّ غيرهما. كان لهما ابنة تكبرني، وهي ابنتهما الحقيقية، ولم ينجبا بعد ذلك.
تبدأ الحكاية حين ذهبنا ذات سنة إلى البادية، تحديداً عام 2004، إلى أقارب أمي السعدية. كان عمري آنذاك تسع سنوات. في ذلك العام ضرب الزلزال، وذهب ضحيته كثيرون. منذ تلك الفترة بدأت أكتشف حقائق عن نفسي: أنني لست إنساناً طبيعياً. كنت من النوع الذي يحب العزلة والخروج إلى الطبيعة والبحر.
في الليلة الثانية لنا في البادية خرجت أمشي قليلاً، وأبعدتُ عن البيت. وفي طريق عودتي ظهرت لي دار مهدّمة تكاد تنهار، كأنها مسكونة. لا أدري ما الذي دفعني لأدخلها حتى اليوم. كان بابها من صفائح الحديد. ما إن وطئت الداخل حتى رأيت الجدران مليئة بالطلاسم والرموز الغريبة. الصدمة لم تكن في الطلاسم نفسها، بل في أنني كنت أعرف معناها ومواضع استعمالها، رغم أنني لم أكن قد اطّلعت على هذا العالم، وكنت صغيراً.
بدأتُ أسمع أصواتاً كثيرة تهمس في أذني. بعد دقيقة اسودّ بصري وأحسست بدوار شديد، ثم اختفت تلك الطلاسم من الجدار كأنها لم تكن. هربتُ، وهذا تصرّف طبيعي ممن يرى أمراً كهذا. عدت إلى البيت وأخبرت أمي أنني سمعت أصواتاً قادمة من داخل ذلك المكان، ولم أقل لها إني دخلت. قال لي ابن خالي إن البيت مهجور منذ زمن، وبعض الناس يقول إنه مسكون.
في تلك الليلة، بعد العشاء، ذهبت لأنام. أحسست كأن أحداً يضغط على رأسي. فتحت عينيّ فرأيت امرأة كبيرة في السن تمسك حبلاً أسود وتشدّه على جبيني ومؤخّرة رأسي. حاجباها كثيفان، وعيناها نصف مغمضتين، وليس لها فم ظاهر. كان ابنَا خالي نائمين بجانبي. ظللت أصرخ، وكأنهما لا يسمعانني. وفي لحظة وضعت تلك المرأة شيئاً في فمي، ثم غبت عن الوعي حتى الصباح. استيقظت وأنا لا أستطيع الكلام، وكأن حلقي مغلق. وعندما جلست مع العائلة على الغداء أصابني انهيار عصبي، سقطتُ أرضاً ولم يعرفوا ما يصنعون. لما أفقت لم أتذكر شيئاً منذ أن نمت تلك الليلة. قالت إحدى قريباتنا إنني ربما ابتلعت شيئاً، فجلبت أعشاباً وطحنَتها، وما إن شممتها حتى تقيأت، وخرج من حلقي خاتم فضي لطفلة صغيرة كانت تسكن هناك، فيه حجر كبير، وكان هو ما علق في حلقي.
مرّ ذلك اليوم وخرجت كعادتي، لكنني امتنعت عن الاقتراب من ذلك البيت. في الليل، وأنا على الفراش لا يأتيني النوم، رأيت على السقف نجمة خماسية تظهر وتختفي، وبجانبها كلمات بالعبرية تشبه أسماء. سَهَوتُ وبدأت أقرأ تلك الكلمات دون إرادتي. كما قلت، كنت أفهمها دون أن أكون قد تعلّمت ذلك. فجأة بدأ ابن خالي يصرخ، وكأن أحداً يكبّله ويمنعه من الحركة. أما أمه فقالت إنه مجرد كابوس. حين نظرتُ إلى وجهه رأيته طويلاً بشكل غير طبيعي، ثم اختفى المشهد. قالت خالتي له: اقرأ القرآن وتشهد قبل أن تنام.
في اليوم التالي، ونحن نستعد للعودة إلى المدينة، حملت خالتي صندوقاً خشبياً كبيراً وأعطته لأمي السعدية. كان صندوقاً قديماً جميلاً من الخارج، لكنني نفرت منه بلا سبب. حاولت مساعدتهم على حمله، فشعرت بيدي تكاد تُكسر من ثقله حتى أفلتّه وسقط، فصرخت أن يدي قد انكسرت. قلّب أبي محمد ذراعي وقال: لا شيء بك، مجرد كدمة. حملوا الصندوق ووضعوه في بيت أختي الكبيرة، منذ ذلك الحين بدأت المشاكل في البيت.
صارت أمي السعدية عصبية جداً بسبب أتفه الأمور. مرة كانت في نقاش مع أخي فرفعت قدر الضغط من فوق الموقد وقذفته من النافذة، ولطف الله أنه لم يصب أحداً. لم تكن هكذا من قبل، كانت هادئة. في أحد الأيام خرج الوالدان إلى السوق وتركوني في البيت. بدأت أسمع طرقاً في بيت أختي. ذهبتُ أتفقد فلم أجد شيئاً. وأنا عائد إلى الجلوس، ظهر أمامي رجل عريض المنكبين، شعره أسود طويل، وعيناه حمراوان كأن بهما دماً. لم يدم المشهد سوى ثوانٍ، ثم اختفى. دخلت أختي سمية عندها فوجدتني أرتجف ولا أستطيع الوقوف. سألتني: ما بك؟ فسقطت بين يديها. أفقت في المستشفى، قال الطبيب إن ضغط الدم ارتفع جداً وكنت على وشك الموت.
عدت إلى البيت وصرت أشم رائحة كريهة لا يشمها غيري. وغرفة سمية تحديداً لم أعد أحتمل الجلوس فيها دقائق حتى يبدأ رأسي بالألم والضيق. بعد ثلاثة أيام سمعنا صراخاً من غرفتها. قالت إنها استيقظت لتجد امرأة تمسك شعرها وتقول لها: أطفئي الضوء، يؤلمني رأسي. كانت سمية تضع ضوءاً خفيفاً للزينة في الليل. ثم اختفت المرأة. قالت أمي السعدية: هذا شيطان، كنتِ تحلمين! أطفأت الضوء، وبقيت تسمع طوال الليل صوت امرأة تمشّط شعرها حتى أذن الفجر.
اختلت حياتنا. صار أبي محمد وأمي السعدية يتشاجران دائماً، ولم يعودا ينامان في غرفة واحدة. أمي صارت تسقط من يديها الأشياء بلا إرادة، وكأن قوة تجذبها فتتكسر. أما أنا، فكانت هذه مجرد البداية مع عالم امتد قرابة اثنتي عشرة سنة: صرت أرى الطلاسم على الجدران وكتابتها بحروف عربية بطريقة غير مألوفة، وأسمع صوتاً في أذني يقرأ لي ما يُكتب. لم أكن أجرؤ أن أحكي لأحد، حتى لا يُقال إنني مجنون أو متخيل. دون شعور أصبحت أحب الطعام بلا ملح، وأطلب من أمي أن تطبخ لي وحدي. إن أكلتُ مالحاً تقيأت. صار نومي مضطرباً، وفي المدرسة كنت أرى الطلاسم على السبورة وأذهل، فوبخني الأستاذ وضربني بشدة حتى بقي أثر أصابعه على وجهي.
في ذلك المساء غضبتُ، وغفوت قبل العشاء. رأيت رجلاً أسمر يلبس السواد ويحمل سيفاً ضخماً. ضحك وقال لي: فلان الذي آذاك سترى ما سيصيبه، وذكر اسم الأستاذ. أيقظتني أمي. في اليوم التالي غاب الأستاذ، ثم غاب شهراً بشهادة طبية. سمعت المعلمين يقولون إنه كان في مبنى قيد الإنشاء، فسقط وتعرّض لكسر في الورك. تذكرت كلام ذاك الذي رأيته في المنام. ظللت أقول في نفسي: ربما مجرد أحلام.
أما أختي سمية فتدهورت. مرة كانت أمي تكلمها، وكأنها لا تسمع. فجأة قامت إلى المطبخ بطريقة غريبة، وقالت بصوت غليظ: لا تصرخي، تؤلمني رأسي. في الصباح التالي فقدت صوتها عشرة أيام، وأصابها ألم في الحلق، ثم عادت بعد عسل ورقية شرعية. وفي ليلة لاحقة، سمعنا صوت الذبح في المطبخ وشيئاً وقع وارتطم بالأرض. أسرعنا لنجدها تحمل سكيناً كبيرة من تلك التي يُذبح بها الأضاحي. أشعلنا الضوء، فإذا بها قد جرحت نفسها والدم على ثيابها، لكنها لا تشعر. اقترب أبي محمد لينزع السكين، فرفعت السكين إلى عنقه وهي تقول: لن أتركها لكم. ضغطت السكين على عنقها ذهاباً وإياباً وكأنها بلا حد. والحمد لله نجّت، فضربها أبي وأغلق عليها غرفة صغيرة داخلية لا نافذة لها. بقينا نراقبها من فتحة صغيرة حتى نامت. قالت أمي: غداً نبحث عن راقٍ يعالجها، فابنتي ممسوسة. ذهبنا إلى راقٍ قريب، لكنني ما إن دخلت عليه حتى نفرت منه وقلت لأبي: لن يفيدنا هذا. أرسلني أبي إلى البيت، ولما وصلت وجدت أمي السعدية ساقطة وسمية غير موجودة. خرجت وحدها كأن قوة أجبرتها. سمعنا صراخاً في الزقاق: لقد ألقت بنفسها من سطح الجيران من الطابق الثاني. نقلناها للمستشفى، أجريت لها عملية في الرأس وكادت تُشلّ وتموت، لكن الله نجاها. كسرت ساقيها وكتفها. قال الراقي إنه لن يضع يده عليها حتى تُشفى قليلاً، لأن حالتها قد تسوء.
اعتاد الجميع أنها لم تعد طبيعية. مرة جاءت جدّة أمي السعدية، فحدّقت فيها سمية وقالت: أنت سبب موت مسعودة، فقد سحرتها حتى أكل كلب السحر ومات به. كانت مسعودة خالة أمي الأولى، تزوجت صغيرة ولم يكن أهل زوجها يريدونها، فسحرتها جدّة أمي، فمرضت حتى ماتت. دخلت سمية في نوبة حادة نقلت بسببها للمستشفى. صار إخوالي يلومون أبي وأمي ويقولون: عالِجوا ابنتكم، فهي ممسوسة. قال الطبيب: احرصوا عليها ولا تُغضبوها، فهي كبيرة ولا تحتمل العصبية. قالت جدتنا لأمي السعدية: إن أردتِ رضاي فاطردي ابنتك من البيت فهي ليست طبيعية! اقترحت عليهم أن تُحبس في مكان. تخيّل أنها تطلب طرد حفيدتها خوفاً من الفضيحة، ما يعني أن وراءها أمراً عظيماً.
في رمضان، استيقظت أمي ليلاً تُعدّ السحور، فنظرت إلى نافذة المطبخ فرأت في الزجاج صورة امرأة قبيحة الوجه، كأن فمها ساقط ووجهها مضروب. أفلتت قدراً على قدمها فاحترقت. أما أنا، فقصتي مع هذا العالم بدأت فعلياً في أول رمضان أفرض عليّ. عزمت على الالتزام بالصلاة، لكن ما إن أقف أصلي حتى أضيق وأعجز عن الإتمام. إذا تحدث المعلم في الدين، سمعت ضحكاً في أذني. كنت أقاوم للصلاة، لكني لا أفسّر ذلك بالجن، بل ظننته مرضاً. مع ذلك، استمر الأمر طوال رمضان، رغم ما يُقال إن الشياطين تُصفَّد.
في ليلة 27، وأنا في التراويح قريباً من مكبر الصوت، انقطع سمعي فجأة وصار القرآن في أذني كالتشويش، حتى لم أعد أسمع شيئاً. أكملت الصلاة بصعوبة. عدنا للبيت، تسحّرنا، ونمت. رأيت طائراً أسود، عيناه سوداوان واقف فوقي، ثم اختفى. قلت: ربما أتوهّم. أما سمية فلم تصم رمضان، إذ كان يصيبها نزيف متكرر وفقر دم حاد.
لاحقاً، قالت بعض الجارات لأمي إن امرأة شريفة ذات جواد (أي صاحبة طريقة) جاءت تزور أقاربها، لعلها تعالج سمية. جاءت المرأة، لكن بدلاً من العلاج أخرجت أوراق الكوتشينة تقرأ الطالع، وبدأت تسأل عن حياتها وتذكر أسماء أولادها بتفاصيل غريبة، فاستغربنا. قالت: هذه البنت إمّا تصبح شوافة مثلنا أو يصيبها بلاء. علمنا أن أختنا في خطر، وأصرّت المرأة أن تأخذها معها، لكن أمي رفضت بعدما حذّرها البعض أن تلك تستغل البنات أمثال سمية.
كنت في الخامسة عشرة، مهووساً بهذا العالم، أبحث عن الكتب والتجارب، وأبتعد عن الملتزمين الذين يدعونني إلى القرآن. صديق لي كان حافظاً لأربعين حزباً نصحني كثيراً، لكني كنت أنسى ما أحفظه في اليوم التالي، والصلاة كانت تثقل عليّ، وإن صلّيت داهمتني صور فاحشة تبطل خشوعي. وفي موقف مخيف كدت أؤذي ذلك الصديق عند البحر بلا سبب، وكأن شيئاً داخلي يريد قتله، فقطع علاقته بي.
تعاطيت بعدها بعض البلايا ولم تكن سجائري فقط. تعرفت على شاب يكبرني قليلاً عنده كتاب سحر قديم لعمّه الساحر في تارودانت. أراد أن يجرّب طلاسم التحضير، واحتجنا شمعة سوداء ودمنا. رسمنا الطلاسم. جرح هو يده ورفع الشمعة ولم يحدث شيء. ما إن جرحتُ أنا يدي ولم أرفع الشمعة بعد حتى انطفأت وحدها، وسمعنا جرّاً وصوتاً على الباب. هربنا وتركنا كل شيء. تلك الليلة رأيت كائناً غريباً يجرّني بسلسلة إلى حفرة عميقة وقال: هذا قبرك أعددته لك. استيقظت ووجهي مسودّ كالفحم، يعود لطبيعته ثم يسود.
جاء راقٍ من وجدة مشهور. ما إن دخل حتى جاءت سمية من غرفتها كأن قوة تدفعها وهاجمتْه، فقرأ عليها وربط لسانها وقال: أنا “الكحلة”، دخلتها عن طريق سحر في هذا البيت. سألها عن مكانه فقالت: في غرفة نومها. بحثنا ولم نجد. ثم التفتَ إليّ، فشعرت بثقل في يديّ كأنهما مكبلتان بالسلاسل، وهددتُه. قال إن مارداً تعاهد معي بالدم، ولن يخرج إلا بقرابين تُذبح في أماكن نجسة، وهو شرك، فرفض. قرأ حتى خرج المارد من أذني اليمنى. صرتُ لا أسمع بها منذ ذلك اليوم. كرهت الرُّقاة بعدها.
عشتُ مع رفقة سوء، أتنقل بينهم، وأذوق مال الحرام، وبعت وتعاطيت، وانحرفت. ازداد وجهي سواداً وهزالاً. بعد نحو ثلاث أو أربع سنوات من التيه، ونحن ذات ليلة في خلاء، رأينا فتيلة نار من بعيد، فظن بعضهم ساحراً، وذهبت إليه وحدي. كان فعلاً ساحراً، دعاني لبيته خارج المدينة. وجدته يعيش في قذارة، ويمتلك كتباً كثيرة، كثير منها حقيقي. طلب صورة أختي، فنظر وتكلم: السحر في البيت، وضع في شيء خشبي دخل معكم، فخطر ببالي الصندوق. قال: أختك ليست حالتها صعبة، سأرسل من يبطل عنها، لكن عليك إزالة السحر بيدك. ثم صعقني بقوله: هذه ليست أختك من دمك.
سألته عن معاناتي، قال: تعاهدتَ بالدم، والراقي لم يُحسن فكّه، والعهد قد يرثه الأبناء. ثم قال: أنت لست معك واحداً، بل كثير من السفليين، وأراهم. حكاية الطلاسم التي تراها منذ الصغر إرث من أجدادك السحرة، وأبوك الحقيقي ساحر. عرض علي طريقين: إمّا أن أسير في طريق أبي وأجدادي مع الجن، وإما أن أنصرف ولا أعود. خرجتُ فجراً وعدت إلى بيت سمية، فوجدت السحر في الصندوق فعلاً. كان من صنع أمّ أمي السعدية (جدتي)، صنعته لزوج خالتي ليفارقها، فلما وصل الصندوق إلينا انتقل البلاء لنا. بعد ذلك أحضر أبي راقياً وفُكّ السحر، فعادت سمية بخير، لكن سنوات ضاعت من عمرها.
جلست مع أمي السعدية تحكي لي أصولي. قالت إن القابلة أخذتني وسلمتني لها لأن أمي الحقيقية خافت أن يرثني أبي الساحر. كان والداي الحقيقيان من سلالة سحرة، ولإنجاب ولد بصفات معينة كانوا يعاشرون ليلة اكتمال القمر بعد طقوس أيام ثلاثة. أمي رفضت هذا، فلما ولدتني تواطأت القابلة لتأخذني. لا خبر عنها اليوم.
قررتُ أن أبقى مع الساحر “العبدي”. قال لي: إن أردت أن تمضي بعيداً، فاقتُل هذا، وأشار إلى قلبه، أي اقتل الرحمة والضمير. كان قاسياً ينتقم من أهله، وقال إنه فرّ من عائلة ميسورة ونكّل بهم. اشترط ألا أدخل غرفة عمله. كان من معه شياطين سفليون، لا يرحمون من يعارضهم. كنت أعاونه في الذبائح النجسة، وأرى العجب من طلبات الناس: امرأة تسحر زوجها، وأخٌ لأخيه، وابنٌ لأبيه. كان يستدرج بعض الزبائن، ولا يحنّ على أحد. كنت أريد أن أكون مثله.
دخلت جلسات التحضير. كان جسده ينتفخ وعروقه تبين، وعيناه تقلّبان، وبطنه كأنها حامل. كان يقول لي: في أذنك اليمنى مارد. قال لي إن الجن يتجلى لك بصورة ليكسر حاجز الخوف، وليس ذلك شكله الحقيقي. علّمني كيف أتواصل مع موروث أجدادي، ثم نصحني ألا أخطو إلى ما لا أطيق. لكن طموحي دفعني للتفوق عليه. دخلت خلسة غرفته وتعلمت أسماء مردة أقوياء، وشرعت أحضر واحداً منهم بخلوة سبعة أيام بنجاسة وكتابة الطلاسم على جلد إنسان ميت حديثاً. تواصلت مع عامل المشرحة، وأحضرت الجلد، وخَلَوتُ في مكان بعيد، ورأيت مرعباً شيخاً بلحية تصل الأرض وثلاثة أسنان وعينين غائرتين. قرأت العهود وجرحت يدي على شمعة باسمه، فانعقد العهد، وظهرت لي حفرة فيها طلاسم وخدّام وأسماؤهم.
عدتُ منتشياً. كان العبدي خارج خلوة فاشلة لأن الشيطان طلب قربان طفل زهري، فلم يفعل. وبدأ العبدي ينهار جسدياً حتى مات بعد ثلاثة أشهر، جلده مائلاً للزرقة ورائحته كريهة. غسّلناه ودفناه.
رحلت إلى شرق المغرب، قرب بركان. حاولت أن أعيش مستقيماً، لكن في الخفاء مارست السحر. كانوا يصدّونني عن كل خير: حتى إن أردت إطعام قطة فرّت أو عضّني كلب. أدخل المسجد على جنابتي عمداً. ازدادت علاقاتي المحرّمة، خاصة مع المتزوجات اللواتي كن يأتين بدعوى العلاج. كرهت الرقاة والفقهاء. جاءني راقٍ مبتدئ ليفتح علاقة معي، فاختنق فجأة عندي وهرب مريضاً. جاءتني امرأة تريد عملاً، فطلبت جدياً أسود لا يتجاوز عامين، فركّبت عليه خادماً حتى وقف على رجلين، ثم قرّبته للنار فلم يخف، فازداد إيمانها بي ودفعَت أكثر.
لكن مسار الندم بدأ حين رأيت طفلة جارتنا، زهريّة الملامح، أحببتها كابنتي. اختطفت لاحقاً، وبحثوا عنها بلا جدوى. استحضرتُ خادمين وتركتهما يسوقانني إلى مكانها، فوجدتها في كوخ مع رجل بموافقة زوج أمها الذي تظاهر بالبحث عنها. كانا يريدان استخراج كنز بها قرب مراكش. أنقذتها وأعدتها، فصار الناس يثقون بي أكثر، ويأتون من مناطق بعيدة. لكن أعمالي كلها سفليّة، وإن حاولت إصلاحاً أفسدوه. وحين فعلت خيراً في الطفلة، قام عليّ خادمان كالجمر وأحرقا قدميّ عقوبة، فعزمت على عصيان القرابين. ضاعت عليّ حياتي: الحرائق تقع في بيتي، المصابيح تنفجر، وأسمع سباباً باسمي، وكلما سجدت شعرت بقبض على رأسي، وكلبي أسود يهاجمني في المنام. تدهورت حالتي، طُردت من البيت، نمت قرب الأضرحة، وتعرضت للضرب بلا سبب، ضاعت أموالي، وصرت أتوهّم معزة تكلمني لتذبحها قرباناً. بكيت لأبي محمد وأمي السعدية، وأصرّا أن أعود. لكني كنت مقيّداً بهذا الطريق.
قررت أن أجدّد عهد الشياطين بصلاة على النجاسة عكس القبلة وقراءة آيات مقلوبة. رجعتُ أعمل بالسحر القذر. تعرفت على امرأة ميسورة في الإمارات (أسميها ملكة). أخذتني كسائق ظاهراً وكساحر خفية، تريد أن يستولي لها عشيقها على أموال زوجها. صنعتُ أعمال تفريق وكراهية في مرآة مكسورة، ودفناها في المقبرة، فطلق الرجل زوجته، وابنه الأكبر أهلكته بالخمور والمشاكل حتى سُجن، والصغير نُفِّر من أبيه. كتَب الرجل لملكة بيتاً وسيارات، وصرت أكسب الملايين. كثرت الحوادث المرعبة في قصرهم: خادمة فلبينية رأت وجهاً كوجه كلب فالتوى ذراعها، والوسطاني رأى فتاة شعرها طويل تقفز من النافذة، والأب رأى جسداً معلقاً في السقف. خفت أن يأتوا براقٍ فينقلب السحر علينا. غرقتُ في الفواحش مع ملكة وصديقاتها. حاولت أن أتزوج فتاة ابنة داعية وتظهر في التلفاز، وفشلت كل أعمالي معها لأن بيتهم محصّن بالرقية والتحصين.
كنت في الرابعة والعشرين وقد امتلكت بيتاً وسيارة ومشروعاً، لكني فارغ الروح. في جائحة كورونا حلمت بأمي السعدية تبكي، ثم وصلني خبر وفاتها. بكيت كثيراً، فقد كانت أقرب الناس إليّ، وابتعدتُ خوفاً من أن أؤذيها بسبيلي الخاطئ. بعد كورونا تعرّفت على فتاة من أوروبا وتزوجنا، وكانت مولعة بالشعوذة، فزدتها تعلقاً بي بسحر الجلب حتى قطعت أهلها. هاجرت إليها وأنجبتُ ولداً وبنتاً. عندما قررتُ أن أترك سحرها كرهتني وطردتني. خرجت غاضباً، سقطت في الطريق، ونُقلت للمستشفى: كلايا تعطلت واحتجت غسيلاً وزراعة. أنفقت كل مالي على العملية. حاولت زيارة أولادي فطردتني، فصرت مشرّداً. اتصلت بي ملكة تعرض عودتي والمال والبيوت، كفخّ لأعود. لكني كنت منهكاً، أشعر كأنهم يمتصون دمي كل يوم، وأذني اليمنى تؤلمني وكأن شيئاً يريد الخروج.
أنقذني بعض المهاجرين غير النظاميين وأسكنوني معهم، لكن الفتن دبّت بينهم بسبب وجودي، فتركتهم خوفاً عليهم. الذي جعلني أتراجع حقاً: أولادي، ووفاة أمي السعدية التي هزّتني. بقيت شهرين في الشارع، حتى التقيت شاباً ثلاثينياً من أهل طريق صوفية، أبوه سوداني وأمه من البلد، زهري سليماني. ما إن رآني حتى قال: ابقَ معي. طلب مني أن أصلي معه، وكبّر إماماً فسقطت خلفه أرضاً. أيقنت أن اليقين بالله هو الفارق. قرأ عليّ القرآن، ولم أعد أعي شيئاً من شدة الغيبوبة، ثم صحوت. قال: ستبقى هنا حتى تُشفى. قرأ عليّ كل يوم، وألّف قلبي على الصلاة والقرآن. كنتُ من قبل إذا فتحت المصحف رأيته مقلوباً أو أبيض الصفحات. بعد شهر ونصف قال: الآن اذهب، فقد صُرف عنك المارد والخدام كلهم، وحتى ما ورثته من أجدادك. وستعود أذنك طبيعية. والله لقد عدت أسمع بأذني اليمنى بعد سنوات من العطب. علمتُ أن ما أصابني كان بسببهم، وأن طريق الله لا يعدله شيء.
عدت إلى زوجتي بلا سحر، فعشنا عامين ثم افترقنا نهائياً. عشت طفولة مع أولادي قليلاً، ثم أخذتهم أمهم. رجعت إلى المغرب، عزّيتُ أبي محمد وأختي سمية في وفاة أمي السعدية. بكيت كثيراً في كل زاوية من البيت. سمية تزوجت ذلك الرجل الذي لم أكن أرتاح له، لكنه خرج طيباً، وكان الخلل مني. أنا اليوم أعيش في أوروبا، أعمل وأسكن مع صديق مغربي. قطعت الاتصال بملكة. لا أريد الزواج الآن، أعيش لأولادي. سمعت أن الشخص الذي عالجني انتقل إلى بلد آخر، وسيبقى دينه في رقبتي ما حييت. أنا اليوم في التاسعة والعشرين، مختلف تماماً عن محسن الصغير؛ حتى ما ورثته لم يعد يقرب مني، وإن رأيتهم في المنام رأيتهم بعيدين. محافظ على صلاتي وقرآني وأذكاري قبل النوم. شعرت أنني عشت فوق سني، وقررت أن أرتاح وأبتعد عن ذلك كله، وأعيش ما بقي لي ببالٍ هادئ.
هذه قصتي باختصار، ذكرتُ المهم المتعلق بي وتركْتُ تفاصيل كثيرة. أشكركم على الاستماع، وأرجو دعاءكم. نصيحتي لكل إنسان: إيّاك أن تسلك هذا الطريق، فآخره كله مصائب. أسأل الله التوبة والمغفرة لنا ولكم. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.



