تجارب مرعبة

الجنية صاحبة الرداء الاسود

بقلم:ابراهيم عبدالحق

اسمي ابراهيم. سني 38 سنة وأسكن في إحدى القرى. لدي دكان بسيط لبيع مواد البناء. في ليلة من الليالي، رن هاتفي وكانت الساعة حوالي العاشرة ليلاً. كان رجلاً أعرفه يشتغل في البناء من قرية أخرى بعيدة قال لي: “السلام عليكم يا عبد الرفيق، كيف حالك؟” قلت له: “بخير، ولله الحمد.” سألته: “لماذا تتصل في هذا الوقت؟” فرد علي: “لقد تعطلت سيارتي وأنا بحاجة إلى خمسة أكياس من الأسمنت. هل يمكنك إحضارها إليّ؟” كان من عادتي التيسير مع زبائني، فلا أكاد أرفض لهم طلبًا. قلت له: “سآتيك بما تريد رغم أني قد أقفلت المحل للتو.” تناولت عشائي بسرعة وأخبرت زوجتي أني سأخذ بضاعة لأحد الزبائن ولن أتأخر. فقالت لي: “اذهب وعد سالمًا ولا تسرع في القيادة.” خرجت من البيت وفتحت الدكان وأخرجت الأكياس ثم وضعتها داخل سيارتي. انطلقت نحو الرجل الذي اتصل بي. بينما كنت في طريقي، انتبهت لوجود نقطة تفتيش للدرك. أشار لي أحدهم بالتوقف، وما أن هممت بالوقوف حتى ركب الدركيان سيارتهما وانطلقا بسرعة فائقة. لم أفهم ما الذي يحصل؛ لماذا انسحب الكيان بهذه الطريقة، كأنهما هربا من شيء؟ نزلت من السيارة وأنا في دهشة، ثم التفت ورائي لأجد امرأة تلبس رداء أسود واقفة تنظر إلي. ركبت السيارة ثم ذهبت في حالي. أوصلت الأكياس إلى الزبون الذي وجدته بانتظاري. طلب مني المكوث لتناول العشاء معه، فشكرته على دعوته وقلت له: “لقد تناولت عشائي مسبقًا.” بينما كنت في طريق العودة، وجدت نقطة تفتيش أخرى للدرك. هل يمكن أن يكون هذان الدركيان هما نفسهما الذين أوقفاني قبل قليل؟ لا أدري. أشار لي أحدهم بالوقوف، فتوقفت بجانب الطريق. طلب أن يرى أوراق السيارة، فأعطيته إياها ثم سألته: “قبل قليل كانت هناك نقطة تفتيش في الاتجاه المعاكس، ثم رأيتك راكبًا في السيارة مع زميل لك وغادرتما بسرعة دون أن تطلعا على أوراق سيارتي.” فقال لي الدركي: “أأنت من أوقفناك قبل قليل؟” قلت: “نعم.” قال لي: “ألم ترَ تلك المرأة التي كانت ورائك؟” قلت له: “أي امرأة؟ أتقصد تلك التي كانت تلبس عباءة سوداء؟” فأجابني الدركي الآخر: “ألم ترَ ضخامة قدميها كأنها أقدام بقر؟ يستحيل أن تكون من البشر.” كنت أحسب أن الدركي يمازحني. سألته: “هل هذا معقول؟ أنتم جادون معي؟” فقال أحدهما: “لو لم يكن الأمر جادًا وحقيقيًا، لما هربت مع رفيقي بالسيارة.” فقلت له: “لكن كيف عرفت أن أقدامها كما وصفت، وهي كانت بعيدة عنكما؟” فرد علي: “هذه ليست أول مرة نراها فيها. لقد شاهدناها ذات ليلة كنا نحسبها امرأة عادية، فرأينا حجم أقدامها الضخم ولها حوافر كحوافر البقر، فركبنا في السيارة وهربنا منها. هذه ليست أول مرة.” أخافني ما قاله الدركيان رغم أني كنت أميل إلى عدم التصديق. أخذت أوراقي ثم غادرت متجهًا نحو البيت. كنت أسير على مهل في طريق مظلم في هذا الليل الحالك، فجأة شاهدت ما يشبه حيوانًا في الطريق. شيء أسود لم أتبينه، فملت بسيارتي يسارًا حتى لا أصطدم به، فمال معي ثم لم يترك لي خيارًا آخر سوى أن أتوقف. ليتني لم أفعل، ليتني أكملت طريقي. عندما توقفت، وجدتني أمام تلك المرأة بعباءتها السوداء. تذكرت كلام الدركيين. لم تظهر لي قدماها، فقد كانت عباءتها طويلة تجرها على الأرض. رأيتها قادمة في اتجاهي، في تلك اللحظة أغلقت أبواب السيارة حتى لا تفتح من الخارج. بدأت تكلمني لكني لم أكن أسمع شيئًا لأن زجاج السيارة كان مغلقًا. فتحته شيئًا يسيرًا، ثم سمعتها تقول لي: “أحتاج مساعدتك.” قلت لها متوجسًا: “كيف أساعدك؟” قالت: “أريدك أن تحمل معي دولابًا.” فقلت لها: “أين هو هذا الدولاب؟” قالت: “عندي في البيت.” فبقيت صامتًا ولم أجبها. قلت لها: “أنا مشغول الآن، علي أن أعود إلى البيت.” كنت أكلمها وفي نفس الوقت أنظر إلى قدمها، فلاحظت أنها تحاول أن تسترهما بعباءتها ما أمكنها ذلك. زاد قلقي وتوتري من هذه المرأة المريبة التي بدأت تتوسل لي كي أساعدها. سألتها على مضض: “أين بيتك؟” قالت: “ليس ببعيد عن هنا.” قلت لها: “أترك سيارتي هنا.” قالت: “لا، من الأفضل أن تذهب بها.” ففتحت لها الباب وقلت لها: “اصعدي.” تزايدت دقات قلبي لما جلست بجانبي، كنت أختلس النظر جهة قدمها فكانت تبالغ في تغطيتهما بيدها. وجهتني للدخول من طريق غير معروف، غير معبد، ثم قالت لي: “هل يمكنك أن تسرع قليلاً؟” قلت لها: “لا أستطيع، الطريق مليء بالحجارة.” فقالت: “عليك أن تسرع، فقد تموت ابنتي.” أجبتها مستغربًا: “ما بها ابنتك؟” فقالت: “ابنتي قد سقط الدولاب من فوقها، وأنا لم أستطع أن أرفعه عنها لوحدي، فلذلك طلبت مساعدتك.” ثم أضافت: “لقد ذهبت إلى الطريق الرئيسي فوجدت هناك رجلين قرب سيارة، فلما رأياني هربا بسرعة. لا أعلم لماذا، ربما كانا مشغولين.” كانت تتحدث عن الدركيين. لم أجبها وبقيت صامتًا، ثم سألتها: “أين البيت؟” فأشارت بيدها إلى الأمام قائلة: “إنه هناك.” رأيت منزلاً يبدو معزولاً وقديمًا، قلت: “أتسكنين هنا؟” قالت: “نعم.” فلما أوقفت السيارة نزلت منها مسرعة ودخلت تهرول إلى الداخل. أما أنا فبقيت واقفًا قرب السيارة، فسمعتها تنادي: “ادخل، ادخل أيها الرجل.” فتقدمت نحو الباب، كان الظلام دامسًا. سألتها: “ألا يوجد كهرباء هنا؟” قالت: “لا، ادخل وساعدني، فابنتي في خطر.” تقدمت وسط الظلام، أحسست بيد خشنة تمسك بيدي، هممت بالصراخ، فقالت المرأة: “إنه أنا، تقدم نحو الدولاب إنه هنا.” فتحسست بيدي ثم طلبت مني أن أحمله من جهتي وهي تستحمله من الجهة المقابلة. قمت برفع الدولاب ووضعته في مكانه، لم يكن ثقيلًا. ثم قالت لي المرأة: “انتظر قليلاً.” سمعتها تفتح بابًا من أبواب الدولاب وتخرج شيئًا. بعد ذلك أشعلت شمعة ووضعتها على الأرض. تساءلت في نفسي: “أين ابنتها التي جئت من أجل إنقاذها؟” التفتت يمينًا وشمالًا وسألت المرأة الغريبة: “أين ابنتك؟” فردت علي: “لقد ذهبت إلى الغرفة هناك.” فقلت مستغربًا: “ألم يكن الدولاب واقعًا عليها؟” فردت: “بلى، ولكن لما رفعناه قامت وذهبت إلى غرفتها.” بقيت متسمرًا في مكاني، ثم سمعت جلبة وطرقًا قادمًا من إحدى الغرف. سألت المرأة: “ما هذه الأصوات؟” ردت علي: “إنها ابنتي تلعب في غرفتها.” استغربت من هذا الأمر، كيف لبنت صغيرة كانت عالقة تحت الدولاب قبل لحظات أن تلعب الآن؟مصابة وخائفة لساعات أن تبدأ في اللعب بمجرد خروجها من تحت دولاب ثقيل. سألت المرأة: “هل يمكنني أن أرى ابنتك؟” فقالت بحزم: “لا، لا يمكنك ذلك.” قلت: “لماذا؟” قالت: “لأنها لا ترتدي ملابس في الوقت الراهن.” قلت: “ولماذا لا ترتدي  بأطفال، لذلك أرغب دوماً في مساعدة الصغار والعطف عليهم.” فقالت لي: “دع ذلك لفرصة أخرى.” فقلت لها: “غداً إن شاء الله سأحضر لابنتك بعض الملابس.” تساءلت الأم مستغربة: “ستأتي إلى هنا؟ قلت: “نعم.” فقالت لي: “شكراً لك، يبدو أنك رجل طيب.” ولما هممت بالمغادرة، سمعت باب الغرفة يفتح واطل منه شخص يقاربني في الطول وله شعر طويل متجعد. لم أتمكن من التحقق من ملامحه فقد كانت الشمعة تضيء شيئاً يسيراً من وسط البيت. التفتت بسرعة نحو المرأة وسألتها: “كم عمر ابنتك؟” فردت علي بارتباك: “عمرها سنوات، لا تزال طفلة صغيرة. لماذا تسأل؟ فقلت: “فقط لكي أشتري لها ملابس بمقاسها. هل معكما أحد في هذا البيت؟” ردت المرأة متضجرة: “أسئلتك كثيرة! لا، لا يوجد هنا غيري أنا وابنتي الصغيرة. هل لديك سؤال آخر؟” قلت: “لا، لا شيء.” التفتت نحو الغرفة وتأكدت أن هناك شخصاً طويل القامة بشعر أجعد وعينين تبرقان. كان يطل علي وهو جامد لا يتحرك. أحسست بخوف كبير وتقدمت نحو الباب لأغادر هذا البيت المريب. قبل أن أصل إلى الباب، سمعت صوت أنين كأن أحداً يئن من ألم أو ما شابه. التفتت ناحية الغرفة فوجدت الباب قد أغلق والمرأة المريبة تقف هناك تبتسم ابتسامة غير مفهومة، نظرتها مربكة. لا أدري لماذا أتيت معها إلى هنا. سألتني: “لماذا توقفت؟” قلت لها: “لقد سمعت صوت أنين كأن أحداً يئن، والصوت قادم من تلك الغرفة وراءك.” فردت علي: “يبدو أنك تتوهم، لا يوجد شيء مما تقول. يبدو أنك بحاجة إلى النوم، فالوقت قد تأخر. اذهب الآن إلى بيتك ولا تنسى الملابس التي وعدتني بها.” فقلت لها: “سأزورك بعد الظهر بقليل.” صمتت المرأة برهة ثم قالت: “هل يمكنك أن تأتي مساءً؟ فأنا أعمل طوال النهار ولا أكون في البيت وأخذ معي ابنتي.” قلت لها: “سأترك المشتريات عند باب البيت.” فردت بسرعة: “لا تفعل ذلك، فقد يسرقها أحدهم.” لم أدري ما أقول لهذه المرأة، تبدو مريبة في كلامها ومخيفة في شكلها وحركاتها. كنت أتجنب النظر إلى عينيها، فكلما ركزت النظر فيهما تنتابني قشعريرة غير مفهومة. بقيت أفكر وفي نفس الوقت أتذكر كلام الدركيين. لماذا تطلب مني القدوم ليلاً؟ هل تكون هذه المرأة جنية فعلاً؟ لم يكن لدي خيار آخر فقلت لها: “غداً سأحضر لك ما وعدتك به.” تقدمت نحو الباب، وفي تلك اللحظة سمعت رقة قوية قادمة من الغرفة. لم ألتفت ورائي، خرجت من المنزل يملأ قلبي الخوف. بدأت ألتفت لأرى موقع البيت الذي بدا قديماً كأنه يعود إلى العصور الوسطى. ركبت سيارتي ثم انطلقت في طريق العودة. وجدت زوجتي لا تزال مستيقظة. استقبلتني وهي قلقة وسألتني: “لماذا تأخرت يا عبد الرفيع؟” فتكأت على فراشي وحكيت لزوجتي كل ما حدث مع تلك المرأة. فظنت زوجتي أني أمزح معها، فأكدت لها أن ما قلته حقيقة. ظهر عليها الخوف ثم ذهبت للنوم. في الصباح نسيت أمر المرأة، فتحت دكاني وشرعت في عملي. في وقت الغذاء تذكرت ما جرى بالأمس، وسألت نفسي هل علي حقاً أن أشتري ملابس لتلك المرأة كما وعدتها؟ لا لن أفعل، لم أرتح لها ويبدو أنها تخفي أمراً خطيراً. لكن ماذا إن كانت صادقة؟ شاورت زوجتي في الأمر فنهتني عن العودة إلى ذلك البيت، وذكرتني بالشخص الذي أطل علي من الغرفة وكلام المرأة المتناقض المريب. فقلت لها: “معك حق، لن أغامر بالذهاب إلى هناك.” مرت ثلاثة أيام كنت أتنقل فيها بين دكاني وبين البيت، وكل الأمور كانت على ما يرام. كان من عادتي أن أغلق دكاني مع الغروب، لكن في اليوم الرابع تأخرت. كنت أنتظر أحد الزبائن، فبقيت إلى الساعة التاسعة والنصف ليلاً. جاء الزبون وأعطيته طلبه ثم هممت بإغلاق الدكان. بينما أنا كذلك، أحسست بالجو وكأنه صار أكثر برودة. خفق قلبي، كان الظلام دامساً والمنطقة خالية تماماً. التفتت فإذا بشخص يراقبني من بعيد، أخذ يقترب مني ببطء. نعم، إنها تلك المرأة بعباءتها السوداء. أحسست كأني أختنق ثم تظاهرت بأني لم أرها. أكملت إغلاق باب الدكان، ثم خطوت خطوات سريعة في اتجاه المنزل. بين الفينة والأخرى كنت ألتفت ورائي فأرى تلك المرأة تتبعني. توقفت ثم بقيت أفكر للحظات، استجمعت قواي ثم استدرت واتجهت نحوها. سألتها بغضب: “لماذا تتبعيني أيتها المرأة؟” فردت بصوت أجش وهي تعاتبني: “لقد تركتني أنتظرك لثلاث ليال لم يغمض لي فيها جفن ولم أذق طعم النوم، وتركت ابنتي المسكينة منتظرة وهي في أسى وحزن. لم أكن أظن أنك مخادع.” استغربت من هذا الكلام ولم أجد ما أجيب به المرأة، فقد بدا عليها الغضب. فاضطررت لأن أكذب عليها وقلت لها: “أستسمحك عذراً، لقد انشغلت كثيراً في عملي ولم أستطع أن أفي بوعدي، أنا آسف جداً.” فرمتني بنظرة فاحصة وهي تقول: “إذاً غداً ستزورني وتحضر معك الملابس التي وعدت بها ابنتي.” قلت لها مرتبكاً: “نعم بالطبع، هذا وعد وعهد علي. اطمئني وطمئن ابنتك.” فقالت وهي تغادر: “لا تتأخر.” وإلا… لم تكمل تهديدها لي، ولم أكن أعرف ماذا تضمر هذه المرأة. مشيت نحو البيت وقد أصابني دوار، كنت على وشك السقوط قرب باب المنزل. فتحت الباب ثم دخلت متثاقلاً، وجدت زوجتي في الانتظار. لم يكن من عادتي أن أتأخر ليلاً إلا نادراً. سألتني: “ما الذي أخرك يا عبد الرفيع؟ ثم يبدو وجهك مصفراً، ما الذي حصل؟” قلت لها: “إن تلك المرأة أتت إلى دكاني.” فقالت مستغربة: “ما الذي تريده منك؟” قلت لها: “ربما لأني لم أفي بوعدي لها.” ردت زوجتي: “لا أطمئن لذلك، اسمع يا عبد الرفيع. غداً اذهب واشتر ملابس للفتاة، لكن لا تذهب إلى بيتهم. دع الملابس في الدكان وسوف تأتي المرأة لأخذها منك، كفانا الله شرها.” وافقت على اقتراح زوجتي، ثم تمددت في فراشي وبقيت أتقلب طويلاً وأنا أفكر في كل ما جرى. في صباح اليوم التالي، ذهبت إلى عملي في دكاني وكان فكري مشتتاً. في وقت الغداء أغلقت الدكان، ثم ذهبت واشتريت بعض الفساتين وأشياء أخرى، وضعتها في كيس ثم عدت إلى العمل. مر اليوم وأنا أنتظر قدوم المرأة، لكنها لم تأتي. **قلت لعليها ستأتي في المساء، فبقيت في الدكان إلى جنّية تتحدثين؟ لم أجد أحداً عند الباب، فقالت وهي ترتعد: “لقد رأيتها لما فتحت الباب. كان شكلها مفزعاً. قالت لي بصوت مخيف: قولي لزوجك أن يأتي إلى بيتي، فأنا أنتظره رفقة ابنتي، وإلا فأنا أعرف كيف أتي إليه. ولما توجهت ببصري نحو قدميها، وجدت لها قدمين كحوافر الأبقار الضخمة.” ثم بدأت زوجتي بالبكاء، قلت لها: “لعلّك تخيلتِ ذلك. لقد رأيت المرأة عدّة مرات لكن لم يكن لها أقدام بهذا الشكل.” حاولت أن أهدّئ من روع زوجتي، أحضرت لها كوباً من الشاي بالأعشاب المهدئة وأضفت لها غطاء آخر حتى تكفّ عن الارتجاف. وبعد أن ارتاحت قليلاً، سألتني وكأنها انتبهت لأمر مهم: “عبد الرفيع، هل بحثت في أرجاء البيت لعلّها تكون قد دخلت لما أُغمي عليّ؟ قلت لها: “لا لم أفعل.” ثم نهضت وبحثت في كل الغرف وحتى في الحمام والسطح، ثم عدت إلى غرفة النوم وأخبرت زوجتي أني لم أجد شيئاً وأننا في أمان. لبست حذائي، فنظرت إلي زوجتي وهي تسأل: “إلى أين ستذهب وتتركني وحيدة؟” قلت لها: “علي أن أذهب إلى تلك المرأة حتى لا يتكرّر ما حدث اليوم.” فقالت: “أرجوك، أنا خائفة عليك، قد تصيبك بأذى. لا تذهب.” قلت لها: “لقد عزمت أمري، أغلقي الباب ولا تفتحي لأحد حتى أعود. علي أن أنهي هذا الأمر، وإلا ستأتي تلك المرأة في كل ليلة ولن يوقفها أحد.” خرجت من البيت ومعي حقيبة الملابس وضعتها في السيارة، ثم انطلقت في الطريق المظلم حتى وصلت إلى مدخل ذو طريق غير معبد مليء بالحجارة. قللت السرعة، لم أعد أتذكر أين بيت المرأة. استمريت في المسير حتى رأيتها بعباءتها السوداء المجرورة على الأرض. كانت واقفة بجانب الطريق. بدأت فرائصي ترتعد لكني تمالكت نفسي. أوقفت السيارة بقربها ثم أنزلت الزجاج. سألتني بنبرة قاسية: “أكنت تريد أن تنام وتتركنا في انتظارك؟” قلت مرتبكاً: “لا، كنت أظن أنك ستأتين إلى الدكان لتأخذ الأغراض التي اشتريتها لابنتك.” فتحت باب السيارة وجلست بجانبي. أحسست برهبة كبيرة، شيء ما غير مطمئن في هذه المرأة الغريبة. مشيت بالسيارة قليلاً، ثم طلبت مني أن أنعطف يساراً في مكان يشبه غابة مهجورة. وبعد قليل، ظهر البيت الذي كان لقدمه وظلمته يشعر بالخوف وينبئ عن الرعب الذي يسكنه. نزلت من السيارة ونزلت قبلي. أخرجت الحقيبة وقدّمتها لها. قلت لها: “خذي هذه، فعليّ أن أغادر، أريد أن أعود إلى البيت.” فقالت: “لا، يجب أن تعطي لابنتي هذه الأشياء بنفسك، فهي لن تصدقني.” أحسست بحرج وضيق شديدين، فوافقت وتبعت المرأة نحو البيت الكئيب. دخلت المرأة واختفت وسط الظلام، ثم رأيتها تشعل شمعة لتضعها على الأرض. بعد ذلك طلبت مني الدخول إلى الغرفة قائلة: “ادخل إلى هذه الغرفة وأعط لابنتي الملابس لكي تجربها.” قلت لها: “افعلي ذلك بدلاً عني.” فردت علي بصرامة: “لن يفعل ذلك أحد غيرك.” في تلك اللحظة، بدأنا نسمع طرقاً قادماً من تلك الغرفة. بعدها فتح الباب لوحده، وأصرّت المرأة أن أدخل الغرفة. لم أفهم سبب إلحاحها. تقدّمت بخطوات متثاقلة وقدمين ترتعدان، فجأة أحسست أني أُدفع دفعاً داخل الغرفة، فوجدتني داخلها والظلام يحيط بي. بعدها أغلق الباب من خلفي. نظرت من حولي، ظلام مخيف إلا من ضوء خافت من نافذة صغيرة. ولما ألفت عيناي الظلام، لمعت في زاوية الغرفة شخصاً جالساً، لا أدري أرجل هو أم امرأة. له شعر طويل يغطي وجهه. بدأت أسمع صوت أنفاسه وكأنه كلب يلهث. تراجعت إلى الوراء حتى التصق ظهري بالحائط. انحنيت نحو الحقيبة، فتحتها وأخرجت منها فستاناً وقلت بصوت مرتبك: “انظري يا بنيتي، ماذا أحضرت لك.” في تلك اللحظة، أحسست بالفستان قد خُطف من يدي بسرعة البرق. ثم انحنيت لألمس الحقيبة، فسمعت كأن أحداً يمزقها تمزيقاً بشراسة. ندمت على مجيئي إلى هذا المكان. ركضت نحو باب الغرفة وبدأت أنادي على المرأة وأطلب منها أن تفتح الباب. بعد لحظات، فتح الباب، وجدت المرأة تبتسم ابتسامة عريضة. قالت لي: “لا أعرف كيف أشكرك، لقد كانت ابنتي في حاجة ماسّة إلى هذه الملابس خصوصاً في هذا الجو البارد.” لم أعد أستطيع الكلام، فلم أجب المرأة. ثم سمعتها تقول لي: “اجلس، سأحضر لك الشاي.” قلت لها: “لا، لا، شكراً. أريد فقط أن أذهب، شكراً لك.” فأشارت بيدها نحو الباب كأنها أذنت لي بالخروج. بسرعة خرجت من البيت، وما أن ركبت السيارة حتى سمعت صوت ضحكات وقهقهات مخيفة. فانطلقت بأقصى سرعة حتى كدت أن اصطدم بشجرة. وانا في الطريق أحاول أن أقنع نفسي بعكس كل ما كان واضحاً. لم يعد هناك مجال للشك، إنها جنّية وأنني كنت في بيت الجن. فرغم أن الشمعة كانت مشتعلة داخل البيت إلا أنني لم أرَ لتلك المرأة ظلاً. وصلت إلى البيت، وجدت زوجتي لا تزال مستيقظة ولا تزال على حالتها من الخوف. أما أنا فكان الفزع ظاهراً على ملامحي. ساد الصمت بيننا، لم تكلمني ولم أكلمها، فقط حاولت أن أنام وأنسى كل ما جرى وكأنه لم يحدث قط. في صباح اليوم التالي، كلمت زوجتي وأخبرتها بما حدث، وأخبرتها أيضاً أني أشعر بانقباض شديد في صدري، فشغلت المسجل على صوت القرآن. بقيت طوال النهار متكئاً أذكر الله وأصلي صلواتي في وقتها، فانزاحت الغمة عني، ووعدت زوجتي أنني لن أخرج ليلاً إلا لضرورة قصوى وأن أغلق دكاني قبل حلول الليل.

مقالات ذات صلة

2 تعليقات

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

تحقق أيضا
إغلاق
Don`t copy text!
arArabic
Open chat
مرحباً 👋
هل يمكننا مساعدتك؟

أنت تستخدم إضافة Adblock

الرجاء اغلاق حاجب الاعلانات